للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أصابهم المسلمون فظفروا بهم قتلًا أو أسرى، فماذا يكون الحال في مكة؟ وإلى أي حد تبلغ المصيبة؟! إن قريشًا تقدم على قتال قوم في بلادهم بغيًا عليهم١، وعلى قتال قوم قد ظلموا وأوذوا في أنفسهم وأموالهم وأخرجوا من ديارهم بغير حق، وهم جميعًا يتحدثون عن الموت حديثهم عن الحياة الخالدة الناعمة. وإنهم لينظرون من ورائه جنة عالية ونعيمًا مقيمًا. فهم إذن قوم مستميتون مستقتلون، يحفزهم الإحساس بالظلم ويدعوهم النعيم الذي ينتظرهم، وليس أشد بأسًا في القتال من مؤمن مظلوم.

وهكذا كانت الروح المعنوية في كل من الجيشين حين تقدما للقتال واستطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يسبق عدوه إلى ميدان القتال، وبذلك اختار لرجاله أفضل المواقع، ثم عدل صفوفهم وبث فيهم الحمية وبشرهم بالنصر وبأن الملائكة ستشد أزرهم؛ وقد أظهر المسلمون منتهى النظام والطاعة والتفاني في محبة قائدهم، وبذلك عوضوا النقص في عددهم وعدتهم. أما قريش فلم تحسن اتخاذ مواقعها، كما كانت التفرقة تسود قوادها، ولم يستطعيوا جمع أمرهم على واحد يلزمهم طاعته، فما لبثوا حين اصطدموا بالمسلمين، أن بطش بهم هؤلاء بطشة شديدة، وتيمموا رؤساء قريش يقتلونهم ويأسرونهم، فارتبكت صفوف قريش وولوا منهزمين بعد أن تركوا في ميدان القتال سبعين قتيلًا كان منهم معظم زعماء مكة، كما تركوا في أيدي المسلمين سبعين أسيرًا، وتركوا كثيرًا من أمتعتهم وأموالهم ودوابهم وقعت غنيمة في أيدي المسلمين. وهكذا كانت هزيمة تامة ساحقة٢.

وتعد معركة بدر على صغرها وعلى قلة الجيوش المتقابلة فيها؛ من المعارك الحاسمة في التاريخ، فقد استقر بها أمر المسلمين في جزيرة العرب، وقد ثبتت دعائم الدولة اليثربية التي كانت مقدمة لوحدة شبه الجزيرة العربية. كما كانت مقدمة لإمبراطورية إسلامية مترامية الأطراف هي من أعظم ما عرف التاريخ من إمبراطوريات. وأقرت حضارة في العالم لا تزال ذات أثر عميق في حياة الإنسانية.

تركت بدر آثارًا عميقة بمكة والمدينة على السواء: فأما في مكة فقد عادت قريش مهزومة مخذولة، قد قتل سادتها وأسر كثير من رجالها وفيهم عدد من ذوي المكانة، وقد تركت الهزيمة في نفوس القرشيين حرصًا شديدًا على الثأر من محمد والمسلمين يوم تتهيأ لهم الفرصة لهذا الثأر، وقد حرصوا على أن تكون فرصة الثأر قريبة وأن تعد


١ الواقدي ٣٧، ٤٥.
٢ انظر ابن هشام ٢/ ٣٦٦، ٣٦٧، الواقدي ٧٠- ٧٣.

<<  <   >  >>