فالهجوم عنده أقوى وسائل الدفاع، وتحطم قوة العدو قبل أن تكتمل أفضل من تركها تتجمع ثم الصمود لها. ولقد سار المسلمون على هذه السياسة التي رسمها النبي -صلى الله عليه وسلم- من بعده، فلم يجعلوا أرض الإسلام ميدان قتالٍ أبدًا. بل كانوا دائمًا ينقلون خطوط القتال إلى أرض العدو نفسه حتى يشغلوه في نفسه عنهم، ولم تصبهم الهزائم إلا بعد أن تخلوا عن خطة اليقظة والنشاط واستكانوا للدعة والتواكل والانتظار.
وقد أتاحت هذه الظروف للدولة اليثربية فرصة الاستقرار، كما أن إخراج بني النضير، واستيلاء المسلمين على أراضيهم ونخيلهم، أدى إلى تحسن حالة المسلمين الاقتصادية في يثرب؛ فقد وزعت الأراضي على المهاجرين فاستقلوا بأمر معاشهم واستغنوا عن معونة الأنصار فتحسنت حالة الطرفين جميعًا، كما ضعف أمر النفاق، وخفت قوة المعارضة الداخلية في المدينة، وكانت الفترة التي تلت خروج بني النضير فترة سكينة وطمأنينة استراح إليها المسلمون. واستطاعوا بعد أن استدار العام أن يخرجوا إلى بدر استجابة لوعد أبي سفيان يوم أحد، لكن قريشًا لم تكن في حالة من القوة تمكنها من الوفاء بوعدها، فلم تذهب إلى بدر واكتفت بأن تتظاهر بالخروج، وترسل تهدد المسلمين. وفي بدر استفاد المسلمون من تجارة الموسم فربحوا، كما جدد النبي -صلى الله عليه وسلم- عهوده مع القبائل التي وادعته من قبل، وكان من نتيجة تخلف قريش وخروج المسلمين أن انمحت آثار أحد واستقر سلطان المسلمين في هذه المنطقة وتدعمت هيبتهم، وامتد نفوذهم نحو الشمال حتى دومة الجندل التي كانت المسافة بينها وبين دمشق حوالي مائة ميل١.
وآن لمحمد بعد كل ذلك أن يستقر بالمدينة عدة أشهر متتابعة وجد فيها فسحة ليقوم بإتمام التنظيم الاجتماعي لهذه الدولة الإسلامية الناشئة في دقة وحسن سياسة، ويوحي إليه ربه منه ما يوحي، ويقر هو ما يتفق وتعاليم الوحي وأمره، ويضع من تفاصيل ذلك ما كان موضع التقديس من أصحابه، وما أشربته نفوسهم لتحمله بعد ذلك للدنيا. فيكون منارها وهاديها عدة قرون متتالية تستقر به حضارة لم يعرفها العالم من قبل.
ترى أكان أعداء محمد تاركيه آمنًا في جماعته يضع لها هذا التنظيم دون أن يدخلوا معه في جولة فاصلة يحشدون لها كل قوتهم وما يستطيع أن يصل إليه مكرهم وكيدهم، ليقروا مصيره ومصيرهم بعد هذا الصراع الدامي الذي أوشك أن يدمر كل