للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهي أقرب حدود الحرم إلى مكة١، وهناك نزل بأصحابه ينتظر ما يكون من قريش. وفكرت قريش أن ترسل إلى المسلمين من يستطلع حالهم من ناحية ومن يحاول صدهم عن دخول مكة بدون حرب من ناحية أخرى، وأرادت أن تشرك القبائل المجاورة لمكة وأن تشرك الأحابيش، حتى إذا ما كان الموقف يتطلب قتالًا وقفوا معها وأعانوها، وقدرت أن محمدًا قد يسيء إلى الرسل الذين ترسلهم إليه من رجالها ومن رجال القبائل ومن الأحابيش فيحفظهم هذا فيتحمسون لنصرة قريش.

لكن محمدًا أحسن مقابلة الرسل الذين أرسلتهم قريش من خزاعة ومن ثقيف ومن الأحابيش٢، واستطاع أن يقنعهم بالحجة مرة، وبالمظهر العملي مرة أخرى -كما فعل مع سيد الأحابيش؛ فإنه أطلق الهدي أمامه٣- بنيته السلمية وبأنه جاء معتمرًا للبيت ولم يجئ غازيًا ولا معتديًا حتى لقد اشمأز بعض هؤلاء الرسل من تصرف قريش ومن عنتها، كما فعل الحليس سيد الأحابيش، فقد قال لقريش حين عاد من عند محمد: "يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم أيصد عن بيت الله من جاء معظمًا له؟! والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء به أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد"٤. وبذلك كسب محمد هذه الجولة من قريش، وألزمها بأن تدخل معه في مفاوضات سلمية؛ وإلا ظهرت بمظهر المتعنت أمام حلفائها وأمام العرب.

وبالرغم من مناوشات قريش ومن اعتداءات سفهائها على المسلمين، ومحاولتهم النيل منهم؛ فقد التزم المسلمون جانب السلم وسود النبي -صلى الله عليه وسلم- كلمة التقوى٥، وكان المسلمون أحق بها وأهلها، وكلمة التقوى تساوي كلمة السلم، وهو المبدأ الإسلامي الذي جاء يقابل مبدأ الجاهلية وهو الحمية التي تقابل العصبية -حمية الجاهلية-.

ولما جاء رسول قريش وهو سهيل بن عمرو مفوضًا لعقد الصلح أظهر النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا من المرونة والتساهل، ولم يحفل بالشكليات بل كان همه في المسألة جوهرها، حتى لقد أغضب موقفه اللين كثيرًا من رجاله وأثار اعتراضهم٦، وحتى اندفع عمر بن


١ ابن هشام ٣/ ٣٥٧. امتاع ١/ ٢٨٤.
٢ ابن هشام ٣/ ٣٥٩- ٣٦٢. إمتاع ١/ ٢٨٦- ٢٨٨.
٣ ابن هشام ٣/ ٣٦٠. إمتاع ١/ ٢٨٨.
٤ نفسه ٣/ ٢٦٠. إمتاع ١/ ٢٨٦.
٥ ابن هشام ٣/ ٢٦٣. إمتاع ١/ ٢٩٠.
٦ ابن هشام ٣/ ٣٦٥- ٣٦٧.

<<  <   >  >>