للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وتحالف وتقرير لحرية الاعتقاد؛ ولئن لم يشترك في توقيع هذه المعاهدة بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع فإنهم لم يلبثوا أن وقعوا بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- صحفًا مثلها. وبهذه الصحيفة التي قررت حرية العقيدة وحرية الرأي وحرمة المدينة وحرمة الحياة وحرمة المال وتحريم الجريمة، استقرت الأحوال في يثرب وأصبحت حرمًا لأهلها، عليهم أن يدافعوا عنها، وأن يتكافلوا فيما بينهم لاحترام ما قررت هذه الوثيقة من الحقوق، وبدت المدينة وكأنما تسير إلى ما كان ينشده لها أهلها من هدوء وتقدم، وبدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- يمثل فيها روح النظام والاستقرار، وكان هو القدوة في حسن المعاملة والتواضع والعدل، وقد ترك ذلك في النفوس عميق الأثر، حتى لقد أقبل كثيرون على الإسلام، وزاد المسلمون في المدينة شوكة وقوة، وأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- يتجه إلى بناء دولته وضمان الأمن لها في الداخل والخارج، ونجحت السرايا التي أرسلها إلى ما حول المدينة في تأمين ريفها وعقد المحالفات لها مع القبائل الضاربة على جنباتها.

هنالك بدأ اليهود يفكرون من جديد في موقفهم من محمد وأصحابه لقد عقدوا معه عهدًا، وكانوا يطمعون في ضمه إلى صفوفهم ليزدادوا به قوة؛ ولكنه أصبح هو أقوى منهم، وإنه ليتجه بقوته إلى المجال الخارجي، ويعمل على توسيع نطاق دعوته ونفوذه، أفيتركونه يمد سلطانه وينشر دعوته على هذا المدى الواسع، ويكتفون بالأمن في جواره أمنًا يمكِّن لمصالحهم المادية أن تتسع؟ لعلهم كانوا يقنعون بذلك لو أمنوا أن دعوته لا تمتد إلى اليهود ولا تفشو في عامتهم، على حين تقتضيهم تعاليمهم ألا يعترفوا بنبي من غير بني إسرائيل.

لكن رجلًا من علمائهم وأحبارهم هو عبد الله بن سلام القينقاعي١ لم يلبث حين اتصل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أن أسلم هو وأهل بيته وجابَهَ اليهود بإسلامه ودعاهم إلى الإسلام٢، وهنا أجمع اليهود أمرهم أن يكيدوا لمحمد وينكروا نبوته. وما أسرع أن اجتمع إليهم من بقي على الشرك من الأوس والخزرج، ومن دخل في الإسلام منهم بظاهره جريًا وراء مغنم أو إرضاء بصحبة لم يقوَ على مخالفتها.

وهنا بدأت حروب جدل بين النبي -صلى الله عليه وسلم- واليهود كانت أكثر لددًا ومكرًا من حرب الجدل التي كانت بمكة بينه وبين قريش؛ فقد حشد اليهود لها ما استطاعوا من أنواع الدسيسة والنفاق، وما كان لديهم من علم بأخبار الأنبياء والمرسلين، يهاجمون بها محمدًا ورسالته وأصحابه من المهاجرين والأنصار. دسُّوا من أحبارهم من أظهر إسلامه وأخذ يجالس المسلمين ويظهر الورع والتقوى، ثم يلقي على النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأسئلة ما يحسبه يثير الشكوك والريب ويزعزع في نفوس المسلمين عقيدتهم به


١ أسد الغابة: ٣/ ١٧٦.
٢ ابن هشام: ٣/ ٢٥ "هامش الروض".

<<  <   >  >>