والقضاء على الوضع القائم في يثرب كله، مستعينين في ذلك بتلك الجماعة المنافقة بزعامة عبد الله بن أبي، وقد بدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- يحس بهذا الموقف في المدينة، لذلك فكر تفكيرًا سياسيًّا بعيدًا عن مرامي الرأي، فرأى ألا شيء خير من أن يستدرجهم ليكشف عن نياتهم.
حين قتل عامر بن الطفيل زعيم بني عامر رجال النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين ذهبوا إلى منطقة نجد للدعوة إلى الإسلام في بئر معونة -مكان بين حرة بني سليم وبلاد بني عامر شرقي المدينة- نجا منهم رجل هو عمرو بن أمية الضمري الذي قابل في طريقه رجلين من بني عامر فقتلهما ثأرًا بأصحابه، ولم يعلم أن معهما كتاب عهد من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقتضاه أن يدفع ديتهما. وذهب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى منازل بني النضير- وكانوا حلفاء لبني عامر- في عشرة من كبار أصحابه، وطلب إليهم أن يعاونوا في دفع دية القتيلين، وأظهر اليهود الغبطة لقدومه إليهم، والاستعداد للتعاون، ولكن حين تبسط معهم وجلس إلى جوار بيت من بيوتهم، ائتمروا بينهم أن يصعد أحدهم إلى أعلى الدار فيلقي على النبي -صلى الله عليه وسلم- صخرة تقتله، وأحس النبي بدقة ملاحظته روح التآمر فيهم، فقام يوهمهم أنه ذاهب لبعض حاجته وترك أصحابه وذهب توًّا إلى المدينة، وحين أبطأه أصحابه رجعوا إلى المدينة وقد أدرك اليهود أن تآمرهم قد اكتشف.
وما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصل إلى المدينة ويجتمع بأصحابه حتى أرسل اليهود أحد رجاله وهو محمد بن مسلمة الأوسي يقول لهم:"اخرجوا من بلادي. لقد نقضتم العهد الذي جعلت بينكم بما هممتم به من الغدر بي، لقد أجلتكم عشرًا فمن رؤي بعد ذلك ضربت عنقه" وأبلست بنو النضير فلم يجدوا لهذا الكلام دفعًا.
لكن عبد الله بن أبي -رأس المنافقين وكبيرهم- أرسل إليهم يقول:"لا تخرجوا من دياركم وأموالكم، وأقيموا في حصونكم فإن معي ألفين ممن أطاعني من قومي وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصونكم ويموتون عن آخرهم قبل أن يوصل إليكم".
وهنا نقف على أبواب مؤامرة خطيرة يدبرها اليهود والمنافقون في المدينة.
ها هم بنو النضير يأتمرون بالنبي -صلى الله عليه وسلم ليقتلوه غدرًا، فلما انكشفت خطتهم، أعلن المنافقون عن المؤامرة كاملة، فإذا جبهة متكاملة تعلن خروجها، وتستعد للحرب، وتعلن في صراحة أن لديها القوة الكافية من عشائرها ومن غيرها من العرب الآخرين، وأن لديها الحصون والقلاع تحتمي بها، وأنها على استعداد لخوض غمار الحرب حتى الفناء.