وروى أهل السير أنّ الذين علق الحب قلوبهم وماتوا أو جنّوا هم الذين عشقوا بنات العمّ والجيران في الحداثة، وإنّ ذلك هو العشق الذي لا يزايل صاحبه أبداً حتّى يموت أو يهيم على وجهه، ويشهد بذلك قول المجنون:
وعلقت ليلى وهي ذات موصد ... ولم يبدُ للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرى البهم يا ليت أنّنا ... صغيران لم نكبر ولم تكبر البهم
ومنه قول جميل:
علقت الهوى منها وليداً ولم يزل ... إلى الآن ينمو حبّها ويزيد
وأفنيت عمري في انتظار نوالها ... وأفنت بذاك العمر وهو جديد
وكان أوّل ما علق جميلٌ بثينة أنّه أقبل يوماً في إبله فاستقبل وداياً يقال له وادي بغيض فاضطجع وأرسل إبله مصعدة وأهل بثينة في ذنب الوادي، فأقبلت بثينة وجارية لها واردتين الماء فمرّتا على فصال له برّك ففرّقتهنّ بثينة وهي إذ ذاك جويرية صغيرة فسبّها جميل فأقترت عليه، فملح إليه سبابها فقال:
وأوّل ما قاد المودّة بيننا ... بوادي بغيض يا بثين سباب
وقلت لها قولاً فجائت بمثله ... لكلّ كلام يا بثين جواب
وعن رجل من جهينة أنّه قال: صادفت في الحمّام جميل بثينة وأنا لا أعرفه فقلت: من أنت؟ قال: جميل، فقلت له: أنت الذي تقول:
لها النظرة الاُولى عليهنّ بسطة ... فإن كرّت الأبصار كان لها العقب
فقال: نعم أنا الذي أقول:
ترى البزل بكرهنّ الرياح إذا جرت ... وبثنة إن هبّت بها الريح تفرح
قال: فقلت: إنّي والله لأظنّ أنّ عرقوفيها يذكيان إذا كلّت شفرة الحي، فضحك وقال: يابن أخي! لو رأيتها لوددت أن تلقى الله بهنة منها مصرّاً عليها أبداً.
وممّا ورد من الأخبار التي تشهد بعفّة أهل العشق المتقدّمين ما رواه سهل بن سعد قال: كنت بمصر وخرجت لحاجة فلقيني صديق لي في بعض الطريق فقال لي: هل لك أن تعدل لعيادة جميل فقد ثقل مرضه؟ قلت: نعم، فدخلنا عليه وهو يجود بنفسه، فنظر إليّ وقال: يابن سعد! ما نقول في رجل لم يزن قط ولم يشرب مداماً ولم يسفط دماً حراماً قد أتت عليه خمسون سنة يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله؟ فقلت: من هذا، فإنّي أظنّه ناج من عذاب النّار؟ فقال: أنا ذاك، قلت: يا سبحان الله! ما رأيت كاليوم أعجب من هذا، وما أحسبك تسلم وأنت تسبّب ببثينة منذ عشرين سنةً؟ فقال: إنّي في آخر يوم من أيّام الدنيا وأوّل يوم من أيّام الآخرة فلا نالتني شفاعة محمّد إن وضعت يدي يوماً عليها لريبة، وإنّما أكثر ما يكون منّي إليها أنّي آخذ يديها فأضعهما على قلبي فأستريح إليها، ثمّ أُغمي عليه فأفاق وأنشأ يقول:
صرخ النعيُّ وما كنى بجميل ... وثوى بمصر ثواء غير قفول
ولقد أجرُّ الذّيل في وادي القرى ... نشوان بين مزارع ونخيل
قومي بثينة واندبي بعويل ... وابكي خليلك دون كلّ خليل
ثمّ أُغمي عليه فمات.
وعن الحافظ أبي محمّد الأموي أنّه قال: كانت عنده امرأة تخدمه، وإنّ فتىً علقها وعلقته، فذاع سراهما وشاع أمرهما، فاجتمعا يوماً فقال لها: هلمّ نحقّق ما قاله فينا الناس، فقالت: لا والله لا كان ذلك أبداً وأنا أقرأ: (الأخلاّءُ يَوْمَئِذ بَعضُهُمْ لِبَعْض عَدوٌّ إلاّ المُتّقين) .
وروي عن جميل أنّه قال لبثينة ليرى ما عندها: هل لك يا بثينة أن نحقّق ما قاله فينا النّاس؟ فقالت: مه، إنّ الحبّ إذا نكح فسد، ونظم هذا المعنى بعض الشعراء فقال:
ماالحبّ إلاّ نظرةٌ ... وغمز كفٍّ وعضد
ماالحبّ إلاّ هكذا ... إن نكح الحبّ فسد
وروي عن الأصمعي أنّه قال: قلت لأعرابيّة: ما تعدون العشق فيكم؟ قالت: العناق والضمّة والمحادثة والغمزة، ثمّ قالت: يا حضري! كيف هو عندكم؟ قلت: يقعد المحب بين رجلي من يحب ثمّ يجهدها. قالت: يابن أخي! ما هذا عاشق، هذا طالب ولد.
وسأل رجل أعرابياً عن العشق فقال: هو اللحظة والنظرة ومصّ الريقة ولثم الثغر والأخذ من لطائف الحديث بنصيب، فكيف هو عندكم يا حضري؟ فقال: العضّ الشديد، والجمع بين الركبة والوريد، وهو يوقض النيام، ويوجب الآثام. فقال: تالله ما يفعل هذا العدوّ فكيف الحبيب.