فلمّا وقف أبو دلف على الأبيات قال: قاتله الله ما أحسن شعره وأدقّ معانيه، وبعث إليّ بوصيف معه ألف دينار.
أقول: قوله: فملآن لا آتيك معناه فمن الآن، فحذف النون، وهذا الحذف شايع مستعمل عند مضايقة الكلام، قال ابن دريد في مقصورته:
من رام ما يعجز عنه طوقه ... ملعبأ يوماً آض مهزول المطا
أي من العبأ.
وقال الشريف الرضي:
من أيّ الثنايا طالعتنا النوائب ... مأي حمىً منّا رعته المصائب
أي من أيّ الثنايا والنظائر كثيرة.
رجعٌ إلى ما كنّا فيه من المدح بالسخاء: قال أبو عبادة البحتري:
بدت على البدو نعمىً منه سابغة ... وقد تحضر أُخرى مثلها الحضر
لا يتعب النائل المبذول همّته ... وكيف يتعب عين النّاظر النّظر
وقال أيضاً:
لا يستريح من الألفاظ منطقه ... إلاّ إلى نعم تفتر عن نعم
وقال مهيار:
لهم دوحة خضراء رويّ أصلها ... بماء الندى الجاري وطيب فرعاها
نمت كلّ مغرور عن المجد سنّه ... يقول نعم في المهد أوّل ما فاها
وما أحلى قول البحتري في قصيدة:
إذا باكرته غاديات همومه ... اراح عليها الراح حمراء كالورد
كأنّ سناها بالعشي لشربها ... تبلج عيسى حين يلفظ بالوعد
له ضحكة عند النوال كأنّها ... تباشير برق بعد بعد من العهد
كأنّ "نعم" في فيه حين يقولها ... مجاجة مسك خيض في ذائب الشهد
وقال إسماعيل بن أحمد الشاشي:
ما قال لا قطّ مذ حلّت تمائمه ... بخلاً بها فوجدنا الجود في البخل
ما ألطف هذا المعنى وأشرفه وهو يشبه قول أبي محمّد الخازن في مدح الصاحب ابن عباد:
نعم تجنب لا يوم العطاء كما ... تجنّب ابن عطاء لثغة الراء
وهو من قول الفرزدق:
ما قال لا قط إلاّ في تشهّده ... لولا التشهّد كانت لائه نعم
ومثله ما قيل في قثم بن العباس:
أعفيت من حل ومن رحلة ... يا ناق إن أدنيتني من قثم
إنّك إن أدنيتنيه غداً ... حالفني اليسر ومات العدم
في وجهه نور وفي باعه ... طول وفي العرنين منه شمم
أصم عن قيل الخنا سمعه ... وما عن الخير به من صمم
لم يدر "ما" لا و"بلى" قدري ... فعافها واعتاض عنها نعم
ومثله قول بعضهم:
أبى جوده "لا" البخل واستعجلت به ... "نعم" من فتىً لا يمنع الجود قائله
قال الزمخشري في أحاجيه: هذا البيت غامض ما رأيت أحداً فسّره.
وحكى يونس عن عمرو بن العلا أنّه جرّ البخل بإضافة لا إليه وأورده أبو علي بنصب البخل وزعم أنّه مفعول أبى وأنّ لا زائدة، وحكى ذلك عن أبي الحسن الأخفش. قال: وأمّا بقيّة البيت فلم يفسّره وهومشكل جدّاً.
أقول: ويترجّح في نظري ما فسّره به بعض القدماء قال في معناه أنّه مدح لكريم، أبى جوده أن ينطق بلا التي للبخل واستعجلت بجوده نعم أي سبقت نعم لا صادرة من فتىً لا يمنع. والهاء في قائله تعود على نعم أي قائل نعم لا يممنع الجود، وهذا أليق التفاسير على كثرتها.
ومن ذلك ما قاله الوليد في معاوية يهجوه وقد عكس فيه المعنى المتقدم:
فإذا سُئلت تقول لا ... وإذا سألت تقول هات
تأبى فعال الخير لا ... تسقي وأنت على الفرات
أفلا تميل إلى نعم ... أو ترك لا حتّى الممات
وقال آخر في المدح:
بدأت بمعروف وثنّيت بالرضا ... وثلّثت بالحسنى وربّعت بالكرم
وباشرت أمري واعتنيت بحاجتي ... وأخّرت لا عنّي وقدّمت لي نعم
وصدّقت لي ظنّي وأنجزت موعدي ... وطبت به نفساً ولم تتبع الندم
فإن نحن وافينا بشكر فواجب ... وإن نحن قصّرنا فما الودّ متّهم
وأمّا أخلاقه: فأقول أنّه قد تحلّى بطباع شفافه، وأخلاق أرقّ من السلافه، لا تحمل قذى الواشين لصفائها، ولا تروى عن ابنة العنقود سورة صهبائها، تزيّنها شيم الطف من روضة باكرها الطل، وأطيب من شيحة تتحدّث عن أريجها النسائم.
خلق شف فالنسيم كثيف ... عنده إن قرنت فيه النسيما
لأخي شيمة تعلم منها ... الغيث إذ يستهلّ أن لا يريما
قد حواها عن معشر أورثوها ... منه من كان مثلهم مستقيما