للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويقال: أنّه قيل لأبي عبيدة: ليس هذه الأبيات في مجموع شعر الخنساء؟! فقال أبو عبيدة: العامّة أسقط من أن يجاد عليها بمثل ذلك، ولعمريى إنّها قد بلغت في مدح أخيها من غير إزراء بأبيها النهاية لأنّها جعلت تقدّم أبيها له عن قدرة منه على المساواة وعن غير تقصير منه، وإنّه أفرج له عن السبق معرفةً له بحقّه وتسليماً لكبر سنّه، ومنها أخذ الشريف الرضي قوله:

ولولا مراعاة الأُبوّة جزته ... ولكن لغير العجز ما أتوقّف

وقال السيّد المرتضى: وكأنّ الخنسا نظرت في هذا المعنى إلى قول زهير:

فشجَّ بها الأماعز وهي تهوي ... هويّ الدلو أسلمها الرشاء

فليس لحاقه كلحاق ألف ... ولا كنجائها منه نجاء

يقدّمه إذا اختلفت عليها ... تمام السن منه والذكاء

ويشبه أن يكون الكميت أخذ من الخنساء قوله في مخلّد بن يزيد بن المهلّب وهو:

ما إن أرى كأبيك أدرك شأوه ... أحدٌ ومثلك طالباً لم يلحق

تتجاريان له فضيلةُ سنّه ... وتلوت بعدُ مصلّياً لم يسبق

إن تنزعا فله فضيلة سبقه ... فبمثل شأو أبيك لم تتعلّق

ولئن لحقت به على ما قد مضى ... من بعد غايته فأحج وأخلق

ويشبه هذا المعنى قول المؤمّل بن أميل الكوفي المحاربي يمدح المهدي في حياة المنصور:

لئن فتَّ الملوك وقد توافوا ... إليك من السهولة والوعور

فقد فات الملوك أبوك حتّى ... بقوا مابين كاب أو حسير

وجئت ورائه تجري حثيثا ... وما بك حيث تجري من فتور

فقال الناس ما من ذين إلاّ ... بمنزلة الخليق من الجدير

فإن سبق الكبير فأهلُ سبق ... له فضل الكبير على الصغير

وإن بلغ الصغير مدى كبير ... فقد خلق الصغير من الكبير

وهذا مأخوذ من قول الشاعر:

جياد جرت في حلبة فتفاضلت ... على قدر الأسنان والعرق واحد

قال السيّد المرتضى: ممّا له بهذا المعنى بعض الشبه وإن لم يذكر فيه السن والتفضيل والكبر قول زهير:

وهو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا

أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدّما من صالح سبقا

ويروى أنّه عرضت على جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي جارية شاعرة فأراد أن يبلوها، فقال لها: قولي على معنى بيتي زهير الذين ذكرناهما، فقالت:

بلغت أو كدت يحيى أو لحقت به ... فنلتما خالداً في شأو مستبق

لكن مضى وتلا يحيى فأنت له ... تال تعلّلت دون الركض بالعنق

العنق دون الركض أي إنّك تعلّل بالعنق اتّقاء وحشمةً لأبيك وجدّك، ولو سرت ركضاً لسبقتهما.

قال السيّد: ومن أحسن ما قيل في المساواة والمقاربة وهو داخل بهذا المعنى مناسب له قول عبّاد بن شبل:

إذا اخترت من قوم خيار خيارهم ... فكلُّ بني عبد المدان خيار

جروا بعنان واحد فضل بينهم ... بأن قيل قد فات العذار عذار

وقول الكميت:

مصلٍّ أبوه له سابق ... بأن قيل فات العذار العذارا

ومثله قول العتابي وهو مليح جدّاً:

كما تقاذف جردٌ في أعنّتها ... سبقاً بآذانها مرّاً وبالعذر

وأوّل من سبق إلى هذا المعنى زهير في قوله يصف مطايرة البازي القطاة ومقاربته لها:

دون السماء وفوق الأرض قدرهما ... عند الذنابي فلا فوت ولا درك

وقد لحظ أبو نؤاس هذا المعنى في قوله يمدح الفضل بن الربيع ويذكر مقارنته لأبيه في الفضل والسؤدد:

ثمّ جرى الفضل فانثنى قدماً ... دون مداه من غير ترهيق

فقيل راشا سهماً يراد به ... الغاية والنصل سابق الفوق

ويشاكل ذلك قول البحتري في ابن أبي سعيد:

جدٌّ كجدّ أبي سعيد إنّه ... ترك السماك كأنّه لم يشرف

قاسمته أخلاقه وهي الردى ... للمعتدي وهي الندى للمعتفي

فإذا جرى من غاية وجريت من ... أخرى التقى شأواكما في المنصف

ويشبهه أيضاً قوله:

وإذا رأيت شمائل ابني صاعد ... أدّت إليك شمائل ابني مخلد

كالفرقدين إذا تأمّل ناظرٌ ... لم يعلُ موضع فرقد عن فرقد

وأمّا قول الخنساء: يتعاوران ملائة الحضر؛ وهي تعني بالملائة الغبار، فإنّ عدي بن الرقاع نظر إليها في قوله يصف حماراً وأتاناً:

<<  <   >  >>