للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يتعاوران من الغبار ملائةً ... بيضاء محدثة هما نسجاهما

تطوى إذا وطئا مكاناً جاسياً ... وإذا السنابك أسهلت نشراها

وقولها: أسلمت أي بلغت السهل، كأكدي إذا بلغ الكدية. قال السيّد المرتضى: وهذا المعنى وإن كان هو معنى بيت الخنساء بعينه، فقد زاد في استبقائه عليها زيادة ظاهره صار من أجلها بالمعنى أحقّ منها، وقد ابتدأ بهذا المعنى رجل من بني عقيل، فقال من قصيدة:

يثيران من نهج الغبار عليهما ... قميصين أسمالاً ويرتديان

أقول: ويعجبني قول القاضي الأرجاني في مدح من تأخّر في زمانه ووصفه بالسبق على أقرانه:

والدهر مضمار الكرام وهم ... أشباه خيل فيه تستبق

ما إن لحقتهم وقد سبقوا ... حتّى سبقتهم فما لحقوا

ولي في هذا المعنى تخميس بيت من قصيدة لعبد الباقي أفندي العمري في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

لحقت وإن كنت لم تعنق ... لشأو به الرسل لم تعلق

وأحرزت قدماً مدى الأسبق ... فيا لاحقاً قطُّ لم يسبق

ويا سابقاً قطّ لم يلحقوما أبرع قول القاضي الأرجاني في تفضيل ممدوحه على من تقدّمه من الكرام وهو على ما هو عليه من تأخّر زمانه، وهذا بالسحر أشبه منه بالشعر:

ختمت به الوزراء ختم جلالة ... من كلّ ذي سبق بذكر شائع

ولئن تأخّر وارداً وتقدّموا ... فرطاً له من مبطىء ومسارع

فالفجر يطلع كاذباً أو صادقاً ... ما زال قدام النهار الساطع

هو لجّة الكرم التي من قبلها ... كانوا أوائل موجها المتتابع

ما أسلس هذا النظم وأرقّه، وأشرف معناه وأدقّه، فلعمري إنّه ليشهد لناسج برده، أنّه في حوك هذه الحلل الفاخرة نسيج وحده.

وأمّا قولي:

ولقد منعت وئيدة الكرم التي ... لولاك ما سلمت لها أوداجها

استعارة الوئيدة للكرم مشعرة بأنّ الكرم لا يوجد إلاّ عنده، فالوئيدة فعيلة، يقال: وأد بنته يئدها وأَداً دفنها في القبر وهي حيّة فهي موؤودة، قال الله تعالى: (وإذا المَوْؤودَةُ سُئِلَتْ، بأيِّ ذَنْب قُتِلَتْ) ، وكانت كندة تئد البنات.

وقد اشتمل هذا البيت على التلميح - وهو بتقديم اللام على الميم - أن يشار في فحوى الكلام إلى قصّة أو شعر أو مثل سائر من غير ذكر تلك القصّة والشعر والمثل، وسمّاه ابن المعتزّ - وهو مخترعه الأوّل - حسن التضمين، ووافقه قدامة وابن جعفر ومن تبعهما، وقال: هو أن يضمن المتكلّم كلامه كلمة أو كلمتين من آية أو بيت من الشعر أو فقرة من خبر أو مثل سائر أو معنىً مجرّد من حكمة أو كلام. وسمّاه المطرزي وصاحب التلخيص بالتمليح - بتقديم الميم على اللام - كأنّ الناظم أتى في بيته بنكتة زادته ملاحة. وسمّاه الإمام فخرالدين الرازي التلويح، وقالوا جميعاً: هو أن يشار في فحوى الكلام إلى مثل سائر أو شعر نادر أو قصّة مشهورة من غير أن يذكر جميعها، ولم يختلفوا بالشواهد. قال أبو تمام من قصيدة يمدح بها أبا سعيد محمّد بن يوسف:

لحقنا بأُخراهم وقد حوَّم الهوى ... قلوباً عهدنا طيرها وهي وقع

فردّت علينا الشمس والليل راغم ... بشمس لهم من جانب الخدر تطلع

نضى ضوئها صبغ الدجنة وانطوى ... لبهجتها ثوب السماء المجزّع

فوالله ما أدري ءأحلام نائم ... ألمّت بنا أم كان في الركب يوشع

أشار إلى قصّة يوشع بن نون في ردّه الشمس. وقد ظرف الرصافي البلنسي في تلميحه هذه القصّة فقال يخاطب من إسمه موسى بأبيات أوّلها:

وما مثل موضعك ابن رزق موضع ... زهرٌ يروق وجدول يتدفّع

يقول فيها:

وعشيّة لبست رداء شجونها ... والجوّ بالغيم الرقيق مقنّع

بلغت بنا أمد السرور تألّفاً ... والليل نحو فراقنا يتقطّع

فابلل بها ريق الغبوق فقد أتى ... من دون قرص الشمس ما يتوقّع

سقطت ولم يملك نديمك ردّها ... فوددت يا موسى لو أنّك يوشع

وقد لمح هذه القصّة أبوالعلا المعرّي فقال:

فلو صحّ التناسخ كنت موسى ... وكان أبوك إسحاق الذبيحا

ويوشع ردّ يوحاً بعض يوم ... وأنت متى سفرت رددت يوحا

وقد لمح قلاقس إلى هذه القصّة أيضاً فقال:

ومنتصر في منع مقلوب عقرب ... بما تحته من لسع مقلوب برقع

<<  <   >  >>