للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال ابن عبّاس: لقد ذكرت شرفاً شريفاً وفخراً فاخراً غير أنّك تفاخر من بفخره فخرت وبفضله سموت. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنّك لا تذكر مفخراً إلاّ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أولى بالفخر به منك. قال ابن الزبير: لو شئت لفخرت عليك بما كان قبل النبوّة. قال ابن عبّاس: قد أنصف القارة من راماها، نشدتكم بالله أيّها الحاضرون أعبد المطّلب أشرف أم خويلد في قريش؟ قالوا: عبد المطّلب. قال: أفهاشم كان أشرف فيها أم أسد؟ قالوا: بل هاشم. قال: أفعبد مناف كان أشرف أم عبد العزّى؟ قالوا: عبد مناف. فقال ابن عبّاس:

تنافرني يابن الزبير وقد قضى ... عليك رسول الله لا قول هازل

ولو غيرنا يابن الزبير فخرته ... ولكنّما ساميت شمس الأصائل

فقضى لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالفضل في قوله: ما افترقت فرقتان إلاّ كنت في خيرهما، فقد فارقناك من بعد قصي بن كلاب، أفنحن في فرقة الخير أم لا؟ فإن قلت نعم خصمت، وإن قلت لا كفرت. فضحك بعض القوم، فقال ابن الزبير: والله لولا تحرمك بطعامنا يابن عبّاس لأعرقت جبينك قبل أن تقوم من مجلسك. قال ابن عبّاس: ولِمَ؟ أبباطل فالبطال لا يغلب الحق؟ أم بحق فالحق لا يخشى من الباطل؟ فقالت المرأة من وراء الستر: إنّي والله لقد نهيته عن هذا المجلس فأبى إلاّ ما ترون. فقال ابن عبّاس: مه أيّتها الإمرأة أقنعي ببعلك فما أعظم الخطر وأكرم الخبر، فأخذ القوم بيد ابن عبّاس وكان قد عمي فقالوا: إنهض أيّها الرّجل فقد أفحمته غير مرّة، فنهض وهو يقول:

ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا ... فلو ترك القطا لغفا وناما

فقال ابن الزبير: يا صاحب القطا أقبل عَلَيّ فما كنت لتدعني حتّى أقوم، وأيم الله لقد عرف الأقوام أنّي سابق غير مسبوق، وإنّ حواري وصديق متبجح في الشرف الأنيق خير من طليق. فقال ابن عبّاس: دسعت بجرتك فلم تبق شيئاً، هذا الكلام مردود من أمرء حسود، فإن كنت سابقاً فإلى من سبقت؟ وإن كنت فاخراً فبمن فخرت؟ فإن كنت أدركت هذا الفخر بأُسرتك دون أُسرتنا فالفخر لك علينا، وإن كنت إنّما أدركته بأُسرتنا فالفخر لنا عليك، والكثكث في فمك ويديك. وأمّا ما ذكرت من الطليق فوالله لقد ابتلي فصبر، وأنعم عليه فشكر، وإن كان والله لوفياً كريماً غير ناقض بيعةً بعد توكيها، ولا مُسلّم كتيبةً بعد التأمّر عليها. فقال ابن الزبير: أتعير الزبير بالجبن، والله إنّك لتعلم منه خلاف ذلك. قال ابن عبّاس: والله إنّي لا أعلم إلاّ أنّه فرّ وما كرّ، وحارب فما صبر، وبايع فما تمّم، وقطع الرحم وأنكر الفضل ورام ما ليس له بأهل.

وأدرك منها بعض ما كان يرتجي ... وقصّر عن جري الكرام وبلدا

وما كان إلاّ كالهجين أمامه ... عناق فجاراه العناق فأجهدا

فقال ابن الزبير: لم يبق يا بني هاشم غير المشاغبة والمضاربة. فقال عبد الله بن الحصين بن الحرث: أقمناه عنك يابن الزبير وتأبى إلاّ منازعته، والله لو نازعته من ساعتك إلى انقضاء عمرك ما كنت إلاّ كالسغب الظمآن يفتح فاه يستزيد من الريح فلا يشبع من سغب ولا يروى من عطش، فقل إن شئت أو فدع، وانصرف القوم.

قوله: دسعت بجرتك فلم تبق شيئاً، الجرّة بالكسر ما يخرجه البعير من جوفه عند الإجترار، يقال: دسع البعير بجرته، والدسع: إخراج الحرّة من الجوف.

وقوله: الكثكث في فمك ويديك، الكثكث والأثلب فتاة الحجارة في التراب، يخاطب بذلك الخائب.

وقوله: غير ناقض بيعة بعد توكيها ولا مُسلّم كتيبةً بعد التأمّر عليها، تلويح وتعريض بالزبير في نقضه لبيعة أمير المؤمنين وخروجه مع عائشة متأمّراً على كتيبتها يوم الجمل ثمّ أسلمها.

<<  <   >  >>