للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويقال: إنّ صاعد بن مخلد كان من أحسن من أسلم ديناً وأكثرهم صلاةً وصدقةً، فصار إلى بابه أبوالعيناء مرّات كثيرة بعقب إسلامه، فحجب وقيل: إنّه مشغول بصلاته. فقال أبوالعيناء: لكلّ جديدة لذّة.

ودخل أبوالعيناء على أبي الصقر يوماً فقال له: ما أخّرك عنّا يا أباالعيناء؟ قال: سرق حماري. قال: وكيف قد سرق؟ قال: لم أكن مع اللص فأخبرك. قال: فهلاّ أتيتنا على غيره؟ قال: قعد بي عن الشراء قلّة يساري، وكرهت ذلّة المكاري، ومنّة العواري.

وزحمه رجل بجسر بغداد على حمار فضرب بيده إلى أُذن الحمار وقال: يا فتى قل للحمار الذي فوقك يقول الطريق.

وقيل له: هل يلقى في دهرنا من يلقى في دهرنا من يلقى؟ قال: نعم في البئر.

ووقف عليه رجل من العامّة فقال: من هذا؟ قال: رجل من بني آدم. فقال أبوالعيناء: مرحباً بك أطال الله بقائك، ما كنت أظنّ هذا النسل إلاّ قد انقطع.

وقال له عبيد الله بن يحيى: كيف كنت بعدي يا أباالعيناء؟ قال: في أحوال مختلفة شرآها غيبت وخيرها أويتك.

ووعده ابن المدبّر بغلاً ولقيه بعد ذلك على حمار فقال له: كيف أصبحت يا أباالعينا؟ فقال: على حمار أعزّك الله. قال: العشيّة يجيئك البغل.

ومرّ بباب عبد الله بن منصور وكان قد اعتلّ ثمّ صلح فقال لغلامه: أيّ شيء خبره؟ قال: كا تحب، قال: فمالي لا أسمع الصراخ عليه.

وقال له ابن مكرم يوماً يعرض به: كم عدد المكذبين بالبصرة؟ قال: مثل عدد الباغين ببغداد.

سمع ابن مكرم رجلاً يقول: من ذهب بصره قلّت حيلته، فقال: ما أغفلك عن أبي العينا، ذهب بصره وعظمت حيلته.

وسمع ابن مكرم أباالعينا يقول في دعائه: يا رب سائلك، فقال: يابن الزانية ومن لست سائله.

وقال ابن مكرم يوماً: ما أحد أعقل من مغنيّة تأكل وتشرب وتتلذّذ وتأخذ الدراهم. قال أبوالعينا: فكيف عقل الوالدة؟ قال: هي أحمق من دغه.

وقيل له: كم تمدح الناس وتذمّهم؟ قال: ما أحسنوا وأساؤا.

وقال له المتوكّل يوماً: إنّي لأفرق من لسانك، فقال له: إنّ الشريف فروقة ذو أحجام، وإنّ اللئيم ذو أمنة وإقدام.

وقال له يوماً وقد دخل عليه: قد إشتقتك والله يا أباالعينا! فقال له: يا سيّدي إنّما يشتدّ على العبد لأنّه لا يصل إلى مولاه، فأمّا السيّد فمتى أراد عبده دعاه.

وروي أنّه قال له يوماً: ما بقي أحد في مجلسي إلاّ وقد اغتابك وذمّك عند ما جرى ذكرك غيري. فقال أبوالعينا:

إذا رضيت عنّي كرام عشيرتي ... فلا زال غضباناً عَلَيّ لئامها

وذكر أبوالعينا قال: قال لي المتوكّل: كيف ترى داري هذه؟ فقلت: رأيت الناس بنوا دورهم في الدّنيا وأمير المؤمنين جعل الدّنيا في داره.

وقال أبوالعينا: قال لي المتوكّل: من أسخى من رأيت ومن أبخل من رأيت؟ فقلت: يا أمير المؤمنين! ما رأيت أسخى من أحمد بن أبي دؤاد، ولا أبخل من موسى بن عبد الملك. قال: وكيف وقفت على بخله؟ فقلت: رأيته يحرم القيب كما يحرم البعيد، ويعتذر عن الإحسان كما يعتذر من الإسائة. فقال: أجئت إلى من أطرحته فسخيته وإلى من أمسكته فبخّلته. فقلت: يا أمير المؤمنين! إنّ الصدق ما هو في موضع من المواضع أنفق منه بحضرتك والنّاس يغلطون فيمن ينسبونه إلى السخاء، فإذا نسب الناس السخاء إلى البرامكة فإنّما ذاك سخاء أمير المؤمنين الرشيد، وإذا نسب الناس الحسن بن سهل والفضل بن سهل إلى السخاء فإنّما ذاك سخاء المأمون، وإذا نسبوا أحمد بن أبي دؤاد إلى السخاء فذلك سخاء أمير المؤمنين المعتصم، وإذا نسبوا الفتح بن خاقان وعبيد الله بن يحيى إلى السخاء فإنّما هو سخاؤك، وإلاّ فما بال هؤلاء القوم لم يُنْسَبوا إلى السخاء قبل صحبتهم الخلفاء؟ فقال لي: صدقت، وسرى عنه.

روى أبوالعينا عن الشعبي قال: دخل الفرزدق إلى سعيد بن العاص وعنده الحطيئة، فلمّا مثل بين يديه قال:

إليك فررت منك ومن زيادِ ... ولم أحسب دمي لكما حلالا

فإن يكن الهجاء أحلّ قتلي ... فقد قلنا لشاعركم وقالا

ترى الغرّ الجحاجح من قريش ... إذا ما الأمر في الحدثان عالا

قياماً ينظرون إلى سعيد ... كأنّهم يرون به الهلال

فقال له الحطيئة: هذا والله أيّها الأمير الشعر لا ما كنّا نعلّل به منذ اليوم، يا غلام! أقدمت أُمّك إلى الحجاز؟ قال: لا ولكن قدمه أبي.

<<  <   >  >>