للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفي مثل هذا قول الشاعر وقد أراد أن يقترض شيئاً من صديق له فلم يعطه فقال:

ولقد أتيت لصاحبي وسألته ... في قرض دينار لأمر كانا

فأجابني والله داري ما حوت ... عيناً فقلت له ولا إنسانا

وسمع الأحنف رجلاً يقول: ما أحلم معاوية، فقال: لو كان حليماً ما سفه الحق.

وكان أبوالعينا من أحضر الناس جواباً، وأجودهم بديهة، وأملحهم نادرةً، ولنذكر طرفاً من أخباره، وهي إن لم تكن كلّها من هذا النمط وإلاّ فغالبها: قيل لأبي العينا: ما أحسن الجواب؟ قال: ما أسكت المبطل وحيّر المحق.

وقال له المتوكّل يوماً: ما أشدّ عليك في ذهاب بصرك؟ فقال: فقد رؤيتك مع إجماع النّاس على جمالك.

وقال له يوماً: أُريدك لمجالستي! فقال: لا أُطيق ذاك وما أقول هذا جهلاً بما لي في هذا المجلس من الشرف ولكنّي رجل محجوب والمحجوب تختلف إشاراته ويخفى عليه إيماؤه ويجوز عَلَيّ أن أتكلّم بكلام غضبان ووجهك راض، وبكلام راض ووجهك غضبان، ومتى لم أُميّز بين هاتين هلكت، قال: صدقت.

وروي أنّه قال له يوماً: لولا أنّك ضرير لنادمتك! فقال له: إن أعفيتني عن رؤية الهلال وقرائة نقش الخواتيم فإنّي أصلح للمنادمة.

وقال له المتوكّل: ما تقول في ابن مكرم والعبّاس بن رستم؟ قال: هما الخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للنّاس وإثمهما أكبر من نفعهما. فقال: بلغني أنّك تودّهما! فقال: لقد ابتعت الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة.

وقال له يوماً: بلغني أنّ سعيد بن عبد الملك يضحك منك، فقال: (إنَّ الّذينَ أجْرَموا كانَ مِنَ الّذينَ آمَنُوا يَضْحكُون) .

وقيل لأبي العينا: إنّ إبراهيم بن نوح النصراني عليك عاتب، فقال: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ والنَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) .

ورآه زرقان وهو يضاحك نصرانيّاً، فقال: (يا أيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصارى أولياء) ، فقال أبوالعينا: (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الّذينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ في الدّين) .

قال المرتضى: أخبرنا أبوالحسن علي بن محمّد الكاتب قال: أخبرني محمّد بن يحيى الصولي قال: أخبرنا أبوالعيناء قال: كان سبب اتّصالي بأحمد بن أبي دؤاد أنّ قوماً من أهل البصرة عادوني وادّعوا عَلَيّ دعاوي كثيرة منها أنّي رافضي، فاحتجبت إلى أن خرجت عن البصرة إلى سرّ من رأى فألقيت نفسي على ابن أبي دؤاد وكنت نازلاً في داره أُجالسه في كلّ يوم، وبلغ القوم خبري فشخصوا نحوي إلى سرّ من رأى، فقلت له: إنّ القوم قد قدموا من البصرة يداً عَلَيّ. فقال: (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ، فقلت: إنّ لهم مَكْراً، فقال: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ واللهُ خَيْرُ الماكِرين) ، فقلت له: كثيرون، فقال: (كَمْ مِنْ فِئَة قَليلة غَلَبَتْ فئةً كَثيرة بإذنِ الله) فقلت: لله درّك أيّها القاضي، فأنت والله كما قال الصموت الكلابي - أو - الكهلاني:

لله درّك أيّ جنّة خائف ... ومتاع دنياً أنت للحدثان

متخمّط يطؤ الرّجال غلبةً ... وطأ الفنيق دوارج القردان

ويكبّهم حتّى كأنّ رؤسهم ... مأمومة تنحطّ للغربان

ويفرّج الباب الشديد رتاجه ... حتّى يصير كأنّه بابان

فقال لابنه أبي الوليد: أُكتب هذه الأبيات، فكتبها بين يديه.

قال الصولي: حفظي عن أبي العينا الصموت الكلابي على أنّه رجل، وقال لي وكيع: حفظي أنّها الصموت الكلابيّة على أنّها امرأة.

ودخل أبوالعينا على الحسن بن سهل فأثنى عليه، فأمر له بعشرة آلاف درهم، فقال: والله ما أستكثر كثيرك أيّها الأمير، ولا أستقلّ قليلك. قال: وكيف ذاك؟ قال: لا أستكثر كثيرك لأنّك أكثر منه، ولا أتستقلّ قليلك لأنّه أكثر من كثير غيرك.

وقال له عبيد الله بن يحيى بن خاقان يوماً: أعذرني فإنّي عنك مشغول. فقال أبوالعينا: إذا فرغت لم أحتج إليك.

وقال له: قد تبيّنت فيك الغضب يا أبا عبد الله؟ فقال: قد أجلّ الله قدرك عن غضبي، إنّما يغضب الرجل على من هو دونه فأمّا على من هو فوقه فلا، ولكن أحزنني تقصيرك فسمّيت حزني عضباً.

<<  <   >  >>