سحرت غداة فضضت الختام ... عنه كأنّ لفظه نفث سحر
وشكّكني حسن تنميقه ... أوشي بنانك أم وشي زهر
فناهيك بها من مبلغة أوعزت فأوجزت، ومفصحة لما فيه لكلّ منطيق أعجزت، قد حملت جزيل الحمد من مبادر بشكره، إلى من تقدّم إليه بمدح مجده وتنويه قدره، فنسأل الله سبحانه أن يجعل عزّكم ملازماً للدوام ما بقي الدهر، ويصل بالبقاء ما خلع عليكم من مطارف الوقار والفخر، إنّه على كلّ شيء قدير، وبالإجابة جدير.
ولمّا قدم قطب دائرة الوزراء والي بغداد المعظم أحمد مدحت باشا نظم بيتين يتخمّس بهما وهما قوله:
فلا والقنا والمرهفات البواتر ... فلا ترة أبقيت لي عند واتر
أيذهب خصم في دم لي مضيّع ... ولست أذيق الخصم طعم البواتر
فكتب إليّ الحاج مصطفى إلى الحلّة يستجثني بعد الإلتماس على تشطيرهما وتخميسمها وإن أنثر مع ذلك نبذة في مدح الوالي المشار إليه، وأن أنظم من الشعر ما يحسن به الثناء عليه، وذكر أنّه حضر في بعض تلك المجالس وجرى ذكر البيتين فضمن التشطير والتخميس ثمّ ألزمني بذلك وحثّني على الإستعجال فأجبته وقلت مصدّراً للنثر بهذين البيتين مورياً فيهما باسم الوالي المقدم ذكره:
لي قواف في جنبها البحر رشحه ... سلسلتها روية لي سمحه
مدح الدهر حسنها غير أنّي ... لست أرضى بها لأحمد مدحه
ذاك من ألحف بيضة الإسلام جناح ظلّه، وأقام دون حوزة الملك سرّاً من زبر آرائه ونصله، ومدَّ غطاء الأمن على الدين، وبسط العدل بين جميع المسلمين، قد اصطفاه حضرة مصدر التأمير للرياسة، وأرسله على حين فترة من التدبير والسياسة، فجاء بعد ما غاضت بحيرة البراعة، وخمدت نيران البأس والشجاعة، جامعاً بين آية النصل، ومعجز المقال الفصل، تنفجر من بنانه ينابع الكرم، وتفرق عن بيانه جوامع الحكم، حتّى هتف لسان العراق، الآن برزت شمس العدل باهرة الإشراق، ودرّ حلب البراعة، ونطق بعد الإفحام لسان البراعة، واستطيبت نفحات غوالي الفضل، بعد ما منع من شمّها زكام الجهل، وقام وزن الآداب بعد كا كسدت منها البضايع، حين نجم مشتري زهرة الكمال في حضرةِ فلكيّة المطالع، كما قلت فيها:
حضرة مولىً سواه ليس يرى ... في غير هذا الزمان إنسان
مذ شبّ يكسي العلى ومرهفه ... شاب به الدهر وهو عريان
فأرض أفنيتها الشرف، ونديم أنديتها الظرف، وخلّتاها الشجاعة والكرم، وخادماها السيف والقلم، وسفيراها العلاء والمجد، وسميراها الثناء والحمد، والهيبة حاجب طراقها، والعزّة خفير رواقها، ويحقّ هاهنا الإنشاء، وإن كان قاصراً لسان الهيبة والثناء:
رواقك ذالا بل وليجة خادر ... بل الليث يخطو دونه خطو قاصر
لك العسكر الجرّار والهيبة التي ... مخافتها تكفيك جرّ العساكر
خطبت الوغى بالرمحوالسيف شاغلا ... لسانيهما بين الكلا والمغافر
فسيفك فيها ناثر غير ناظم ... ورمحك فيها ناظم غير ناثر
وكم من عدوّ قد خلقت لقلبه ... جناحين من ذعر ورعب مخامر
فهابك حتّى ساعة السلم لم يكن ... ليلقاك إلاّ في حشىً منك طائر
وخافك حتّى حين يخلو بسرّه ... كأنّ رقيباً منك خلف السرائر
طلعت ثنيّات التجارب كلّها ... فصرت ترى بالورد ما بالمصادر
رويد الأعادي إنّ حزمك عوده ... على الغمز يوماً لا يلين لهاصر
وإن جهلت يوماً حسامك فلتسل ... به هامها عن عهده بالمغافر
لك القلم النفّاث في عقد النهى ... بديع بيان من معان سواحر
فوالله ما أدري أهل نثر ساحر ... على الطرس يبدو منه أم سحر ناثر
وفكرك يوحي أيّ نظم وإنّها ... لقول كيم جلّ لا قول شاعر
هذا ولقد رغدت سماء ذلك الفكر المدار، فقرعت سمع الأعداء بصاعقتين يخطب منهم برقهما القلوب والأبصار، قد أوشكت أن تطلع على نفوسهم منهما الآجال، إذ تحمّس بهما فقال:
فلا والقنا والمرهفات البواتر ... فلا ترةً أبقيت لي عند واتر
أيذهب خصم في دم لي مضيّع ... ولست أذيق الخصم طعم البواتر