من محبّ قطع قلبه الشوق الملح، وبرح به الغرام المبرح، وحال من البعاد بينه وبين حبيبه، ما أوقد في أحشائه سعير وجد إذا انحنت عليه أضلاعه تجافت عن لهيبه، وغودر جنباه من تلهّب أنفاسه الحرار، يرسل عليهما شواظ من نار، وكاد في تصاعد حريق زفرته، يضرم الهواء ناراً في كرّته، وحشدت جحافل الغرام في منحني ضلوعه، وانتجعت سفح عقيق دموعه، فهي تستدير عينه دموعها في كلّ آن، فتنبعث كأنّهنّ الياقوت والمرجان، وأوطنت الصبابة في غوير لبّه، وقوّض السلو عن غضا قلبه، وحال من مترادفات الأشجان، بينهما برزخ لا يبغيان، وأوشك الفراق أن ينسف طود حلمه بريح عقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلاّ جعلته كالرميم، فلا يتناهى في تحرير نعنت شوقه الكلام، ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام، إلى من حلقت به قدامي شرفه، فقصّر كلّ محلق عن شأو علاه التي أحرزها عن سلفه، وغذي بلبان العلياء إلى أن بحجرها نشا، وارتشف مدامة حبّها إلى أن انتشى، وطابت منه الخليقة، فكانت بما قلت فيها خليقة.
يا طيب أخلاق كريم روى ... السامع عنها ما رأى المبصر
بأنّها أطيب من روضة ... طينتها مازجها العنبر
لو مزج الماء بها شارب ... ما شكَّ فيه أنّه الكوثر
ندب له في حلبات العلى ... دون الأنام الورد والمصدر
كأنّ من يأوي إلى بشره ... من وحشة في روضة يحبر
معارج العلياء مرصودة ... ليس عليها غيره يظهر
الفصيح الذي عقدت عليه الفصاحة حبك نطاقها، والبليغ الذي مدّت فوق البلاغة رفيع رواقها، والماجد الذي سمح الدهر بجوده، فدلّ على نفي بخل الدهر وإثبات جوده، وأحيى به روضة الأدب بعد ما ذوت، وأجدّ به ربوع الفضل بعد ما عفت، ورفع به سماء المجد بعد هبوطها، واقام به أعمدة السؤدد بعد سقوطها، وأقرّ عيون السماح منه بإنسانها، ووصل بيمين المعروف منه ببنانها، ونشر به جميع ما طوى من المحاسن العجيبه، وأظهر به ما أخفى من بدايع الكلمات الغريبه، فهو من أهل زمانه بمنزلة الروح من الجسد، والواسطة من العقد المنضّد، فأكرم به من ماجد بهيج تعشوا من ضوء صباح محيّاه نواظر الرائين إذا ملأت من نوره البصر، وأعجب به من فطن تعشوا في ظلام الأشكال إلى مصباح ذكاه بصائر ذوي النظر، لا زالت شمس إقباله طالعة في أعلى بروج المراتب، وكوكب سعده ثاقباً في سماء شرفه التي يتمنّى أن يحلّ فيها سعد الكواكب، ولا برح طائر اليمن له مزجورا، وروض مسرّته غضّاً مونقاً نضيرا، بمحمّد وآله المبرّئين من الزلل، وصحبه الذين مالهم في التقى من مثل.
أمّا بعد؛ فإنّي لم أزل فيك للغرام نديماً، وعلى الصبابة حيثما رحلت مقيماً، تذهب بي الأشواق كلّ مذهب، وطرف عيني لم يزل في آفاق السماء مقلب، فكأنّ عيني وقد نبت عن إغضائها، ووكلت بعدّ النجوم وإحصائها.
أنا أحصي النجوم فيك ولكن ... لذنوب الزمان لست بمحصي
غير أنّي كلّما ألحّ على قلبي الجوى فأضناه، روّحته بذكراك فتنتعش بعد الضعف قواه، وبينا أعلّل نفسي بذكر الوصال، وهي من شدّة الشوق تتمثّل بذكر من قال:
ولم أر مثل قطع الشوق قلبه ... على أنّه يحكي قساوته الصخر
إذ وردت منك إليّ رسالة بديعة الكلام، حسنة النسق والإنسجام، قد افتتحت بزهر السلام روضة كلماتها، وختمت بمسك الثناء عقود فقراتها، فنشقت منها نسيم المودّة حين نشرت لدي، واقتطفت منها نور المحبّة حين قُرئت عَلَيّ، وهزّني إليها الطرب، وملكني بها العجب، ولمّا استوقفت النظر فيها، وأجلت الفكر في ألفاظها ومعانيها، سكرت من كؤس ألفاظها ولا جام، بمدامة معانيها ولا مدام، قد ابتدأت برفع خبر الشوق نحوالخليل، وأنهت إليه الجزم بتمييزه فيما بنيت عليه من مضمر الحب وظاهر المدح الجليل، وأنبأت فيما أكّدت من الشوق أن لا بدل من الصب عند صبّه، وأن لا عوض عنه حين نعتت من اشتغال قلب الحبيب بمحبّه، وإنّ هوى الخليل مقصور على خليله في كلّ أحواله، بالإضافة إلى عدم الإستثناء في حذف عذاله، وصرحت عن إلغاء مقالة الحسّاد، وإثبات ما راموا نفيه من المحبّة والوداد، فطفقت أكسوها من استبرق المدائح برداً أحكم فكري نسجه، وأحلّيها بعقود الثناء، وإن لم تزد حسنها بهاء وبهجه.
أطرسك أم خدُّ عذراء بكر ... وذا درُّ لفظك أم لفظ در