أقول: وقد اشتملت هذه المقطوعة على نوع من أنواع التوجيه، والتوجيه هو: إيراد الكلام محتملاً لوجهين مختلفين، من قولهم: كلام موجّه إذا كان له ظاهر وباطن، فكأنّه ذو وجهين؛ فالنوع الذي أشرنا إليه بأنّ هذه المقطوعة اشتملت عليه هو في قولنا فيها:
مكرمات بنشرها الفضل يحيى ... لكريم لولاه مات الرجاء
لا تقس واصلاً بمن كلّ وقت ... واصلٌ منه للوفود عطاء
فلفظة "النشر" تحتمل معنيين هاهنا: أحدهما: النشر الذي هو خلاف الطيّ، والمراد به الإذاعة، من نشر الخبر إذا أذاعه.
وثانيهما: النشر الذي هو الإحياء بعد الموت، وليست هذه اللفظة من التوجيه بشيء، وإنّما جيء بها لمناسبة الألفظ التي وقع فيها التوجيه، وهذا النوع يسمّى التوجيه بأسماء الأعلام، كما سيأتي، لأنّ لفظة "الفضل، ويحيى، وواصل، وعطاء" تحتمل معنيين: أحدهما العلميّة، وثانيهما: الفضل الذي هو خلاف النقص، ويحيى: الفعل من الحيوة الذي هو ضدّ يموت، وواصل: إسم فاعل الاُولى من وصله، والثانية: من وصل إليه، وعطاء: هو الإسم من أعطاه.
إذا تقرّر هذا فنقول: إنّ التوجيه قد يكون باستعمال ألفاظ أهل صناعة معلومة فيكون ظاهره تلك الصناعة وباطنه غيرها، وقد يكون بإيراد الكلام يحتمل المدح والذم، كقول ابن هاني الأندلسي:
لا يأكل السرحان شلوَ طعينهم ... ممّا عليه من القنا المتكسّر
فإنّه يحتمل المدح ويكون المقتول منهم والرماح لأعدائهم، ويحتمل الذمّ ويكون المقتول من أعدائهم والرماح لهم، ومثله قول الآخر:
بارك الله للحسن ... ولبوارن في الختن
يابن هارون قد ظفرت ... ولن ببنت مَنْ
فلا يُعْلَم ما أراد ب "بنت مَنْ" في الرفعة أو الحقارة. وقد يكون بإيراد كلام يحتمل الدعاء له والدعاء عليه، كقول من قال:
خاط لي عمروٌ قباء ... ليت عينيه سواء
قلت شعراً ليس يُدرى ... أمديح أم هجاء
فهو يحتمل تمنّي العوراء أن تكون صحيحة أو بالعكس. وقائل هذا بشار بن برد، يُروى أنّه فصّل قباءً عند خيّاط أعور اسمه زيد أو عمرو، فقال له الخيّاط على سبيل العبث به: سآتيك به لا تدري أهو قباء أم فرّاجة، فقال له: إن فعلت ذاك لأنظمنّ فيك بيتاً لا يعلم أحد ممّن سمعه أكان لك أم عليك، ففعل الخيّاط، فقال هو البيت.
ومثله ما حكاه ميمون بن مقرون قال: تقدّم جعيفران الموسوس إلى يوسف الأعور القاضي بسرّ من رأى لحكومة في شيء كان في يده من وقف له، فدفعه عنه وقضى عليه، فقال: أراني الله أيّها القاضي عينيك سواء، فأمسك عنه وردّه إلى داره، فلمّا رجع أطعمه ووهب له دراهم ثمّ دعا به فقال له: ماذا أردت بدعائك؟ أردت أن يردّ الله عَلَيّ من بصري ما ذهب؟ فقال له: والله لئن كنت وهبت لي هذه الدراهم تسخر بي وإنّي لأسخر منك لأنّك أنت المجنون لا أنا، أخبرني كم من أعور رأيته عمي؟ فقال: كثير، قال: فهل رأيت أعوراً صحّ قط؟ قال: لا، قال: فكيف توهّمت عَلَيّ الغلط، فضحك منه وصرفه.
وقال محمّد بن عبد الله بن سنان الخفاجي في كتابه: إنّه ينبغي أن لا يُستعمل في الكلام المنظوم والمنثور ألفاظ المتكلّمين والنحويين والمهندسين ومعانيهم، ولا الألفاظ التي يختصّ بها بعض علوم الهيئة وغيرها، لأنّ الإنسان إذا خاض في علم وتكلّم في صناعة وجب عليه أن يستعمل ألفاظ أهل ذلك العلم وأصحاب تلك الصناعة، ثمّ مثّل ذلك بقول أبي تمام:
مودّة ذهبت أثمارها شبهٌ ... وهمّة جوهرٌ معروفها عرض
وبقوله أيضاً:
خرقاء يلعب بالعقول حبابها ... كتلعّب الأفعال بالأسماء