وعلى قولنا في هذه المقطوعة: ولدى فصل الخطاب خطيبها، ما روي عن السفّاح أنّه أراد أن يخطب يوماً فارتجّ عليه، كانت أوّل خطبة خطبها، فقال: أيّها النّاس! إنّما اللسان بضعة الإنسان، يكلُّ بكلاله إذا كلَّ، وينفسح بانفساحه إذا انفسح، ونحن أُمراء الكلام، منّا تفرّعت فروعه، وعلينا تهدّلت غصونه، ألا وإنّا لا نتكلّم هذراً، ولا نسكت حصراً، بل نتكلّم مؤيّدين، ونسكت معتبرين، ثمّ نزل، فبلغ ذلك أبا جعفر أخاه، فقال: لله هو لو خطب بمثل ما اعتذر به لكان من أخطب العرب، وهذا من أبلغ الإعتذار عند استغلاق الكلام وأحسنه.
وخطب آخر فلمّا بلغ إلى قوله أمّا بعد، أُرتجّ عليه فكرّرها ثمّ قال: أمّا بعد؛ فإمرأتي طالق ثلاثاً.
وخطب بعض الأُمراء فلمّا بلغ إلى قوله أمّا بعد، أُرتجّ عليه، فركل المنبر برجله وقال: فتى حروب لا فتى منابر.
وخطب ثابت مولى يزيد بن المهلّب فارتُجَّ عليه، فنزل وهو يقول:
فإلاّ أكن فيكم خطيباً فإنّني ... بسيفي إذا جدّ الوغى لخطيب
وفي رواية أُخرى:
فإلاّ أكن فيكم خطيباً فإنّني ... ضروب بماضي الشفرتين صقيل
فبلغ ذلك يزيداً فقال: لو قاله على المنبر لكان من أخطب الناس، إنتهى.
واعلم أنّه ينبغي للمنشىء، شاعراً كان أو كاتباً، أن يتأنّق من قصيدته أو خطبته أو رسالته في ثلاثة مواضع: الإبتداء، والتخلّص، والإنتهاء، وإن كان ينبغي له التأنّق والمحافظة في جميع كلامه، إلاّ أنّ الإهتمام بشأن هذه المواضع الثلاثة ألزم، ورعايته أوجب، لأنّ الإبتداء أوّل ما يقرع السماع ويصافح الذهن، فإن وافق السمع ابتداءً مليحاً أصغى إليه، وربّما اغتفر لأجله بعض التقصير فيما بعد، وإن وافق ابتداءً قبيحاً نفره ومجّه، وربّما توجّه اللوم على صاحبه وإن أجاد فيما بعد. ولأنّ التلخّص؛ وهو الإنتقال ممّا يبقى منتظراً له السامع، مرتقباً كيف يكون، فإن كان حسناً متلايم الطرفين، حرّك من نشاط السامع وأعان على الإصغاء إلى ما بعده وإلاّ فبالعكس. ولأنّ الإنتهاء آخر ما يعيه السمع ويرتسم في النفس، فإن كان مختاراً حسناً تلقّاه السمع واستلذّه، وإن كان بخلاف ذلك كان العكس. ولا بأس بالكلام على هذه المواضع الثلاثة مفصّلاً، وذكر بعض المقابح التي اتّفقت للشعراء في أثناء قصائدهم. أقول: أمّا الإبتداء: فقد قال بعض علماء الفن أنّه يُسمّى حسن الإبتداء، ويُسمّى براعة المطلع، وحسن المطلع، وبراعة الإستهلال، وينبغي التأنّق فيه بأن تكون ألفاظه متقاربة في الرقّة والجزالة والعذوبة والسلاسة، وأن تكون متناسبة من غير أن يكتسي اللفظ الشريف المعنى السخيف، ولا اللفظ السخيف المعنى الشريف، بل يصاغان صياغة تلايم وتناسب، وبأن يكون سالماً من التناقض والإمتناع ومخالفة العرف والإبتذال وأمثال ذلك من التعقيد وغيره، وأن يستعمل الألفاظ الرقيقة في ذكر الأشواق ووصف أيّام البعاد وفي استجلاب المودّاة وملاينات الإستعطاف وأمثال ذلك، فمن حسن الإبتداء في تذكار الأحبّة والمنازل قول امرء القيس:
قفانيك من ذكري حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
قالوا: إنّه أبدع فيه لأنّه وقف واستوقف وبكى واستبكى، وذكر الحبيب والمنزل في نصف بيت عذب عذب اللفظ حسن السبك، إلاّ أنّهم انتقدوا عليه عدم المناسبة في الشطر الثاني، وقالوا أحسن منه في تناسب القسمين قول النابغة:
كليني لهمٍّ يا أميمة ناصب ... وليل أُقاسيه بطيّ الكواكب
فإنّ قسميه متناسبان، وألفاظه متلائمة، وإن كان بيت امرء القيس أكثر معانياً منه، وما سمع أشدّ مباينة من قسمي بيت جميل:
ألا أيّها النوّام ويحكم هبوا ... أُسائلكم هل يقتل الرّجل الحبّ
ولقد قال الرشيد يوماً لبعض ندمائه: هل تعرف بيتاً نصفه بدوي في شملة وباقيه محتب بذلة، فأنشده البيت، فاستحسن ذكره.
ومن حسن الإبتداء قول أشجع السلمي:
قصرٌ عليه تحيّة وسلام ... خلعت عليه جمالها الأيّام
وقول أبي تمام:
لا أنت أنت ولا الديار ديار ... خفّ الهوى وتولّت الأوطار
وقول المتنبي:
أتراها لكثرة العشّاق ... تحسب الدمع خلقة في المئآقي
وقول الشريف أبي جعفر البياضي مشيراً إلى الإبل:
رفقاً بهنَّ فما خلقن حديدا ... أوما تراها أعظماً وجلودا