للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأحسنه ما ناسب المقصود، بأن يكون فيه إشارة إلى ما سيق الكلام لأجله، ليكون الإبتداء مشعراً بالمقصود، وهو بهذا الإعتبار يُسمّى براعة الإستهلال، من برع الرجل براعة إذا فاق أصحابه في العلم وغيره، فكأنّ هذا الإبتداء فاق غيره من الإبتداءات التي يستهلّ بها الشعراء فمنه قول أبي محمّد الخازن في تهنئة الصاحب بن عبّاد بمولود لابنته:

بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا ... وكوكب المجد في أُفق العلى صعدا

وقول المتنبّي في التهنئة بزوال المرض:

المجد عوفي مذ عوفيت والكرم ... وزال عنك إلى أعدائك الألم

وقول مهيار المشعر بالإعتذار:

أما وهواها عذرة وتنصّلا ... لقد نقل الواشي إليها فأمحلا

وقول الباخرزي المشعر بالتهنئة في النصر على الأعداء:

وفت السعود بوعدها المضمون ... وتباشرت بالطائر الميمون

وعلا لواء المسلمين وشافهوا ... تحقيق آمال لهم وظنون

وقول أبي الطيب المتنبي في الإعتذار والتهنئة:

لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم تسعد الحال

ومن البديع الفائق قول أبي تمام يهنّي المعتصم بالله في فتح عمورية، وكان أهل التنجيم زعموا أنّها لا تفتح في ذلك الوقت:

السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حدِّه الحدُّ بين الجدِّ واللعب

بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهنَّ جلاء الشك والريب

والعلم في شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لا في السبعة الشهب

ولولا خوف الخروج عمّا نحن فيه لذكرت هذه القصيدة برمّتها، لأنّها من خيار الشعر وأبلغه وأحسنه.

ولا بأس بذكر ما عيب على بعض الشعراء في ابتداء قصائدهم وفي أثنائها، من وقوع ما لا يليق أن يخاطب به الملوك، وما يتطيّر منه، وما يكون مستثقلاً بسبب تكرار اللّفظ الواحد في البيت لغير تجنيس، وما يتضمّن معنيين حسناً وقبيحاً إلى غير ذلك ممّا تجب المحافظة على اجتنابه، فلقد عيب على امرء القيس قوله:

غدائره مستشزرات إلى العلا ... تظلّ العقاص في مثنى ومرسل

لتنافر لفظة مستشزرات وثلها على اللسان وعسر النطق بها.

ورؤبة بن العجّاج في قوله:

وفاحماً ومرسنا مسرجا ... وكفلاً وعثا إذا ترجرجا

لفظة "مسرج" فيها الغرابة.

وأبي النجم الفضل بن قدامة بن عبيد الله العجلي في قوله: الحمد لله العليّ الأجلل قالوا: لفظة "أجلل" مخالفة للقياس اللغوي، إذا القياس الأجلّ بالإدغام.

والفرزدق في قوله:

وما مثله في الناس إلاّ مملكا ... أبو أُمّه حيٌّ أبوه يقاربه

عابوا عليه التعقيد، لأنّ بيته لم يكن ظاهر الدلالة على المراد لهذا الخلل الذي في نظمه.

وقيل: إنّ ذا الرمّة أنشد عبد الملك قوله: ما بال عينيك منها الماء ينسكب، وكانت عين عبد الملك دائماً تدمع، فتوهّم أنّه خاطبه وعرّض به، فقال له: وما سؤالك عن هذا يابن الفاعلة؟ وأمر بإخراجه.

وجرير الخطفي لمّا أنشد عبد الملك:

أتصحو أم فؤادك غير صاحي ... عشيّة همّ صحبك بالرواح

فقال له عبد الملك: بل فؤادك يابن الفاعلة.

والأخطل لمّا دخل على عبد الملك وأنشده: خف القطين فراحوا منك أو بكروا، فقال له: بل منك يابن الفاعلة.

وكذلك أبوالنجم لمّا أنشد هشاماً وكان أحولاً:

صعوآء قد كادت ولمّا تفعل ... كأنّها في الأُفق عين الأحول

ظنّ هشام أنّه عرّض به فأمر بضربه، فضُرِب، وقال: أدبه خير من جائزته.

وأبو عبداة البحتري لمّا أنشد يوسف بن محمّد قوله: لك الويل من ليل بطاءٌ أواخره فقال: بل لك الويل والحرب.

وابن مقاتل الضرير لمّا أنشد الداعي العلوي: موعد أحبابك بالفرقة غد، قال: بل موعد أحبابك ولك المثل السوء.

وأنشد أيضاً يوم المهرجان:

لا تقل بشرى ولكن بشريان ... غرّة الداعي ويوم المهرجان

فبطحه وضربه خمسين سوطاً وقال: إصلاح أدبه خير من ثوابه، وأمر بتغيير الإبتداء بأن يقال: إن تقل بشرى فهذي بشريان.

ويقال: إنّه اعترض عليه الداعي بعد ضربه وقال: كان ينبغي أن يؤخّر المصراع الأوّل ويفتتح بالثاني، فقال: أيّها الفاضل! أفضل الذكر لا إله إلاّ الله، فقال: أحسنت أحسنت، وأمر له بصلة.

<<  <   >  >>