وأبو تمام لمّا أنشد أبو دلف العجلي قصيدته البائية التي ابتداؤها: على مثلها من أربع وملاعب، وكان في المجلس رجل يشنؤه، فقال: لعنه الله والملائكة والناس أجمعين. وكان في أبي تمام حبسة شديدة فانقطع خجلاً.
ونقل صلاح الدين الصفدي أنّ شاعراً أنشد الشريف فخرالدولة ابن أبي الحسن نقيب الطالبيين قصيدة يهنّيه في شهر رمضان، وكان الشريف يتأذّى بالصوم لمرض يجده، فكان ابتداء قصيدته: أيّامنا بك كلّها رمضان، فقال الشريف: طوالٌ والله مشؤمة لديّ، مكروهة عندي، مبغضة إليّ، وحرمه ولم يعطه شيئا.
ودخل أبو إسحاق الموصلي على المعتصم وقد فرغ من بناء قصر، فأنشده:
يا دار غيرك البلى ومحاك ... ياليت شعري ماالذي أبلاك
فتطيّر المعتصم من هذا الإبتداء وأمر بهدم القصر على الفور.
وأبو نؤاس مدح الفضل في قوله:
أربع البلا إنّ الخشوع لبادي ... عليك وإنّي لم أخنك ودادي
فتطيّر الفضل من هذا الإبتداء، فلمّا بلغ إلى قوله:
سلام على الدّنيا إذا ما فقدتموا ... بني برمك من رائحين وغادي
إستحكم تطيّره ولم يمض أُسبوع إلاّ ونزلت بهم النازلة.
وقال الثعالبي في يتيمة الدهر: إنّ لأبي الطيب المتنبّي إبتداآت ليست لعمري من أحرار الكلام وغرره، بل هي كما نعاها عليه العائبون مستشنعة لا يرفع السمع لها حجابه، ولا يفتح القلب لها بابه، كقوله في استفتاح قصيدة في مدح ملك يريد أن يلقاه بها أوّل لقية:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا
وفي الإبتداء بذكر الداء والموت والمنايا ما فيه من الطيرة التي تنفر منها السوقة، فضلاً عن الملوك.
وقوله أيضاً: أوه بديلٌ من قولتي آها، وهو بحمة العقرب أشبه في افتتاح الكلام في مخاطبته ملكاً.
وقوله أيضاً:
آحاد في سداس في آحاد ... ليلتنا المنوطة بالتناد
وهذا كلام الخطل، ورطانة الرطن، وما ظنّك بممدوح شمر للسماع من مادحه فسك سمعه بهذه الألفاظ الملفوظة، والمعاني المنبوذة، وأيّ هزّة تبقى لذاك؟ وأيّ أريحيّة تبقى لهذا؟ ومن ابتداآته المستبشعة التي تنكّرها بديهة السماع قوله:
ملثّ القطر أعطشها ربوعا ... وإلاّ فاسقها السمَّ النّقيعا
وقوله أيضاً:
هذي برزت لنا فهجّت رسيسا ... ثمّ انثنيت وما شفيت نسيسا
فإنّه لم يرض بحذف النداء من هذي، وهو غير جائز عند النحويين، حتّى ذكر الرسيس والنسيس، فأخذ بطرفي الثقل والبرودة.
قال الصاحب بن عبّاد: ذكر الأُستاذ الرئيس يوماً الشعر، فقال: أوّل ما يحتاج فيه حسن المطلع، فإنّ أبا دلباب أنشدني يوم نوروز قصيدة ابتداؤها: أقبر فما طلب النوال بطائل، فتطيّرت من افتتاحه بالقبر وتنغّصت باليوم والشعر.
قلت: كذا كانت حال ابن مقاتل لمّا مدح الداعي العلوي بقوله: لا تقل بشرى ولكن بشريان، فإنّه نفر من قوله: لا تقل بشرى وقال: أعمى وابتدأ بهذا في يوم المهرجان.
قال الصاحب: وهي من عيون قصائده التي تحيّر الأوهام.
وقال ابن ضافر: صنعت قصيدةً بالشام سنة تسع وثمانين ومائة في الملك الأفضل أبي الحسن علي ابن الملك الناصر نورالدين، أوّلها:
دعها ولا تحبس زمام المقود ... تطوي بأيديها بساط الفدفد
وأنشدتها لمّن كان بالعسكر من أصحابنا المنتسبين إلى الأدب، فما منهم إلاّ من بذل جهده في نقدها ورمى بأفلاذ كبده فيها فكره، ثمّ حملتها إلى حضرته فصادفت قبولاً واتّفق بعد ذلك أن أنشدتها لابن الأجلّ التكريتي، فلمّا أنشدته البيت الأوّل قال: ما يؤمنك إذا أخذ مدرجها في يده وفتحه فوجد أوّل ما فيها: دعها أن يلقيها من يده ويقول قد فعلت ألست كنت تفتضح؟ قلت: بلى والله ولكن قد وقى الله. قال: وهذا نقدٌ غريب.
وقال الصاحب بن عبّاد: ما زال الناس يستبشعون قول مسلم بن الوليد:
سلت وسلت ثمّ سل سليلها ... فأتى سليل سليلها مسلولا
حتّى جاء المبدع يعني أباالطيب المتنبي فقال:
وأفقد من فقدنا من وجدنا ... قبيل الفقد مفقود المثال
قال: والمصيبة في الراثي أعظم منها في المرثي، وقوله أيضاً:
عظمت فلمّا لم تكلّم مهابةً ... تواضعت فهو العظم عظماً على عظم
قال صلاح الدين الصفدي: لو سمّي هذا البيت جبانة لكان لائقاً به.