وَأما المهانة فَهِيَ الدناءة والخسة وبذل النَّفس وابتذالها فِي نيل حظوظها وشهواتها كتواضع السّفل فِي نيل شهواتهم وتواضع الْمَفْعُول بِهِ للْفَاعِل وتواضع طَالب كل حَظّ لمن يَرْجُو نيل حَظه مِنْهُ فَهَذَا كُله ضعة لَا تواضع وَالله سُبْحَانَهُ يحب التَّوَاضُع وَيبغض الضعة والمهانة وَفِي الصَّحِيح عَنهُ وَأوحى إِلَى أَن تواضعوا حَتَّى لَا يفخر أحد على أحد وَلَا يَبْغِي أحد على أحد والتواضع الْمَحْمُود على نَوْعَيْنِ
النَّوْع الأول تواضع العَبْد عِنْد أَمر الله امتثالا وَعند نَهْيه اجتنابا فَإِن النَّفس لطلب الرَّاحَة تتلكأ فِي أمره فيبدو مِنْهَا نوع إباء وشراد هربا من الْعُبُودِيَّة وَتثبت عِنْد نَهْيه طلبا للظفر بِمَا منع مِنْهُ فَإِذا وضع العَبْد نَفسه لأمر الله وَنَهْيه فقد تواضع للعبودية
وَالنَّوْع الثَّانِي تواضعه لِعَظَمَة الرب وجلاله وخضوعه لعزته وكبريائه فَكلما شمخت نَفسه ذكر عَظمَة الرب تَعَالَى وتفرده بذلك وغضبه الشَّديد على من نازعه ذَلِك فتواضعت إِلَيْهِ نَفسه وانكسر لِعَظَمَة الله قلبه وَاطْمَأَنَّ لهيبته وأخبت لسلطانه فَهَذَا غَايَة التَّوَاضُع وَهُوَ يسْتَلْزم الأول من غير عكس والمتواضع حَقِيقَة من رزق الْأَمريْنِ وَالله الْمُسْتَعَان
فصل وَكَذَلِكَ الْقُوَّة فِي أَمر الله هِيَ من تَعْظِيمه وتعظيم أوامره وحقوقه حَتَّى
يقيمها الله والعلو فِي الأَرْض هُوَ من تَعْظِيم نَفسه وَطلب تفردها بالرياسة ونفاذ الْكَلِمَة سَوَاء عز أَمر الله أَو هان بل إِذا عَارضه أَمر الله وحقوقه ومرضاته فِي طلب علوه لم يلْتَفت إِلَى ذَلِك وأهدره وأماته فِي تَحْصِيل علوه
وَكَذَلِكَ الحمية لله وَالْحمية للنَّفس فَالْأولى يثيرها تَعْظِيم الْأَمر والآمر وَالثَّانيَِة يثيرها تَعْظِيم النَّفس وَالْغَضَب لفَوَات حظوظها فالحمية لله أَن يحمى قلبه لَهُ من تَعْظِيم حُقُوقه وَهِي حَال عبد قد أشرق على قلبه نور سُلْطَان الله فَامْتَلَأَ قلبه بذلك النُّور فَإِذا غضب فَإِنَّمَا يغْضب من أجل نور ذَلِك السُّلْطَان الَّذِي ألْقى على قلبه وَكَانَ رَسُول الله إِذا غضب احْمَرَّتْ وجنتاه وبدا بَين عَيْنَيْهِ عرق يدره الْغَضَب وَلم يقم لغضبه شَيْء حَتَّى ينْتَقم لله وروى زيد بن أسلم عَن أَبِيه أَن مُوسَى بن عمرَان كَانَ إِذا غضب اشتعلت قلنسوته نَارا وَهَذَا بِخِلَاف الحمية للنَّفس فَإِنَّهَا حرارة تهيج من نَفسه لفَوَات حظها أَو طلبه فَإِن الْفِتْنَة فِي النَّفس والفتنة هِيَ الْحَرِيق وَالنَّفس متلظية بِنَار الشَّهْوَة وَالْغَضَب فَإِنَّمَا هما حرارتان تظهران على الْأَركان حرارة من قبل النَّفس المطمئنة أثارها تَعْظِيم حق الله وحرارة من قبل النَّفس الأمارة أثارها استشعار فَوت الْحَظ