للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الانتقام عَجزا وخوفا ومهانة نفس فَهَذَا مَذْمُوم غير مَحْمُود وَلَعَلَّ المنتقم بِالْحَقِّ أحسن حَالا مِنْهُ قَالَ تَعَالَى {وَالَّذين إِذا أَصَابَهُم الْبَغي هم ينتصرون}

فمدحهم بقوتهم على الِانْتِصَار لنفوسهم وتقاضيهم مِنْهَا ذَلِك حَتَّى إِذا قدرُوا على من بغى عَلَيْهِم وتمكنوا من اسْتِيفَاء مَالهم عَلَيْهِ ندبهم إِلَى الْخلق الشريف من الْعَفو والصفح فَقَالَ {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا فَمن عَفا وَأصْلح فَأَجره على الله إِنَّه لَا يحب الظَّالِمين} فَذكر المقامات الثَّلَاثَة الْعدْل وأباحه وَالْفضل وَندب إِلَيْهِ وَالظُّلم وَحرمه

فَإِن قيل فَكيف مدحهم على الِانْتِصَار وَالْعَفو وهما متنافيان

قيل لم يمدحهم على الِاسْتِيفَاء والانتقام وَإِنَّمَا مدحهم على الِانْتِصَار وَهُوَ الْقُدْرَة وَالْقُوَّة على اسْتِيفَاء حَقهم فَلَمَّا قدرُوا ندبهم إِلَى الْعَفو قَالَ بعض السّلف فِي هَذِه الْآيَة كَانُوا يكْرهُونَ أَن يستذلوا فَإِذا قدرُوا عفوا فمدحهم على عَفْو بعد قدرَة لَا على عَفْو ذل وَعجز ومهانة وَهَذَا هُوَ الْكَمَال الَّذِي مدح سُبْحَانَهُ بِهِ نَفسه فِي قَوْله وَكَانَ الله عفوا قَدِيرًا {وَالله غَفُور رَحِيم} وَفِي أثر مَعْرُوف حَملَة الْعَرْش أَرْبَعَة إثنان يَقُولَانِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبنَا وَبِحَمْدِك لَك الْحَمد على حلمك بعد علمك وَاثْنَانِ يَقُولَانِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبنَا وَبِحَمْدِك لَك الْحَمد على عفوك بعد قدرتك وَلِهَذَا قَالَ الْمَسِيح صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ {إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي أَن غفرت لَهُم غفرت عَن عزة وَهِي كَمَال الْقُدْرَة وَحِكْمَة وَهِي كَمَال الْعلم فغفرت بعد أَن علمت مَا عمِلُوا وأحاطت بهم قدرتك إِذْ الْمَخْلُوق قد يغْفر بعجزه عَن الانتقام وجهله بِحَقِيقَة مَا صدر من الْمُسِيء وَالْعَفو من الْمَخْلُوق ظَاهره ضيم وذل وباطنه عز ومهانة وانتقام ظَاهره عز وباطنه ذل فَمَا زَاد الله بِعَفْو إِلَّا عزا لَا انتقم أحد لنَفسِهِ إِلَّا ذل وَلَو لم يكن إِلَّا بِفَوَات عز الْعَفو وَلِهَذَا مَا انتقم رَسُول الله لنَفسِهِ قطّ وَتَأمل قَوْله سُبْحَانَهُ وهم ينتصرون كَيفَ يفهم مِنْهُ أَن فيهم من الْقُوَّة مَا يكونُونَ هم بهَا المنتصرين لأَنْفُسِهِمْ لَا أَن غَيرهم هُوَ الَّذِي ينصرهم وَلما كَانَ الِانْتِصَار لَا تقف النُّفُوس فِيهِ على حد الْعدْل غَالِبا بل لَا بُد من الْمُجَاوزَة شرع فِيهِ سُبْحَانَهُ الْمُمَاثلَة والمساواة وَحرم الزِّيَادَة وَندب إِلَى الْعَفو

وَالْمَقْصُود أَن الْعَفو من أَخْلَاق النَّفس المطمئنة والذل من أَخْلَاق الْإِمَارَة ونكتة الْمَسْأَلَة أَن الانتقام شَيْء والانتصار شَيْء فالانتصار أَن ينتصر لحق الله وَمن أَجله وَلَا يقوى على ذَلِك إِلَّا من تخلص من ذل حَظه ورق هَوَاهُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ ينَال حظا من الْعِزّ الَّذِي قسم الله الْمُؤمنِينَ فَإِذا بغى عَلَيْهِ انتصر من الْبَاغِي من أجل عز الله الَّذِي أعزه بِهِ غيرَة على ذَلِك الْعِزّ

<<  <   >  >>