للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

جاء أعرابيٌ إلى الكسائي فقال: ما (كوكبٌ دُرّيٌّ) ودريّ ودريُّ؟ قال: دُرّيٌّ يشبه الدُرَّ ودَرّيٌّ يلتمع ودرّي جادٍ. قال: أنت أعلم الناس! ومضى. - قيل لأبي عمر الدوري: لم صحبتم الكسائي؟ وفيه من المجانة والخلاعة والمجاهرة بشرب النبيذ ومداعبة الغلمان ومخالطتهم، مافيه؟! قال: لضبطه القراءة وعلمه بالعربية وصدقه الحديث.

قال الكسائي: أحضرني الرشيدُ في سنة اثنتين وثمانين ومائة - وهي السنة الثالثة عشرة من خلافته، فأخرج إليَّ محمَّداً الأمين وعبد الله المأمون كأنهما بدران، فقال: امتحنهما بشء! فما سألتهما عن شيء إلا أحسنا الجواب فيه، فقال لي: كيف تراهما، ياعليُّ؟ فقلتُ " من الطويل ":

أرى قمري أفقٌ وفلاعي بشامةٍ ... يزينها عرق كريمٌ ومحتدُ

يسدانِ آفاق السماءِ بهمةٍ ... يؤيدها حزمٌ ورأيٌ مُسدَّدُ

سليلي أمير المؤمنين وحائزي ... مواريثِ ما أبقى النبيُّ محمَّدُ

حياةٌ وخصبٌ للوليِّ ورحمةٌ ... وجدبٌ لأعداء وعضبٌ مهنَّدُ

هذان، ياأمير المؤمنين، فرع رسا أصله، وطاب مغرسه، وتمكنت فروعه، وعذبت مشاربه، وأورق غصنه، وأينع ثمره، وزكا فرعه، أداهما ملك أغر نافذ الأمر واسع العلم عظيم الحلم، أعلاهما فعلوا، وسما بهما فسموا، فهما متطولان بطوله، ومستضيئان بنوره، وينطقان بلسانه، فأمتع اللهُ أمير المؤمنين بهما وبلغه الأمل فيهما! فقال الرشيد: تعهدهما! قال الكسائي: فكنتُ أختلفُ إليهما.

وكتب الكسائي إلى الرشيد وهو يؤدب محمداً " من الكامل ":

قُلْ للخليفة ما تقولُ لمن ... أمسى إليك بحرمةٍ يُدلي

مازلتُ مذ صار الأمين معي ... عبدي يدي ومطيتي رجلي

وعلى فراشي من ينبهني ... من نومتي بقيامه قبلي

أسعى برجلٍ منه ثالثةٍ ... نقصت زيادنها من الرجل

فامنن عليَّ بما يسكنه ... عني وأهد الغمد للنصل

فضحك الرشيد وأمر له ببرذون بسرجه ولجامه وجارية حسناء بآلتها وخادم وعشرة آلاف درهم.

وقال الكسلئي للرشيد: ليس أحدٌ يلحن في الدنيا ولاشيء من كلام الناس إلا وله وجه صحيحٌ، لايعلمون ما يعنون. ثمّ إنه كان يوماً مع الرشيد في موكبه، فسمع الرشيد صاحب باقليّ يقول: المقلي المقلي! فدعا الكسائي فقال له: زعمت أنه ليس أحدٌ يلحن، فما معنى هذا المقلي؟ وإنما يريد: مَقُلَّوا! وقال: ياأمير المؤمنين، إنما يعني هذا أنّ الناس قد قلوه من القلى وهجروه ولكنه لايعلم.

دخل أبو يوسف الفقيه على الرشيد وعنده الكسائي يحدثه، فقال: ياأمير المؤمنين، قد سعد هذا الكوفيّ بك وشغلك. فقال الرشيد: النحو أستعين به على القرآن والشعر. فقال الكسائي: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن له بجوابي عن مسألة من الفقه؟ فضحك الرشيد وقال: أبلغت - ياكسائي - إلى هذا، قل! فقال الكسائي: ماتقول في رجلٍ قال لامرأته: أنتٍ طالقٌ أن دخلت الدار؟ قال أبو يوسف: إذا دخلت طلقت. فقال الكسائي: أخطأت! إذا فتحت " ان " فقد وجب الأمر لأن " أن " بالفتح لما قد كان، وإذا كسرت فلم يقع بعد. فنظر أبو يوسف بعد ذلك في النحو.

وقال: اجتمعت أنا وأبو يوسف القاضي عند الرشيد، فجعل أبو يوسف يذم النحو ويقول: وماالنحو؟ فأردت أن أعلمه فضل النحو فقلت: ما تقول في رجلٍ قال لرجل: أنا قاتلُ غلامك! وقال آخر: أنا قاتلٌ غلامك! أيهما كنت تأخذ به؟ آخذهمت جميعاً! فقال الرشيد: أخطأت - وكان له علمٌ بالعربية - فاستحيي وقال: كيف ذلك؟ فقال: الذي يؤخذ بقتل الغلام هو الذي قال: أنا قاتلُ غلامك بالإضافة لأنه فعلٌ ماضس، وأما الذي قال: أنا قاتلٌ غلامك بالنصب فلا يؤخذ لأنه مستقبل لم يكن بعد، كما قال الله عزّ وجل: (لاتقولنَّ لشيءٍ إني فاعلٌ ذلك غَداً إلا أنْ يشاءَ اللهُ) ، ولولا أن المنون مستقبل ماجاز فيه غداً. فكان أبو يوسف بعد ذلك يمدح النحو والعربية.

سأل الرشيد عن بيت الراعي وفي المجلس الأصمعي والكسائي " من الكامل ":

قتلوا ابنَ عفّان الخليفة مُحرماً ... ودعا فلم أرَ مثله مخذولاً

<<  <   >  >>