وقيل: كان سبب ميتة سيبويه أنه كان عنده صديق له، فتمسى عنده وأخذ منه الشراب، فحرص به صاحب المنزل أن يبيت عنده، فأبى فوجّه معه غلاماً ليوصله إلى منزله، فصار إلى دربه وقد أغلق دونه، فتسور الدرب ومكث الغلام مكانه، فتردى من أعلى الدرب على رأسه فوقص فسمع وهو يقول " من الطويل ":
يَسُرُّ الفتى ماكان قدَّم من تقى ... إذا أبصر الداءَ الذي هو قاتله
وقيل: إنه مات من علة وله ثمان وثمانون سنة. - وقيل له في علته التي مات فيها: ماتشتهي؟ فقال: أشتهي أن أشتهي. وقيل: لما احتضر وضع رأسه في حجر أخيه، فأغمي عليه، فدمعت عبنُ أخيه فقطرت قطرة من دموعه على خده، فأفاق من غشيته فرأى أخاه يبكي فقال " من الطويل ":
أخَييَّنِ كنَّا فرَّقَ الدَهْرُ بيننا ... إلى الأمدِ الأقصى فمن يأمن الدَهْرا
وقال ابن دريد: مات سيبويه بشيراز وقبره بها. وقال عبد الباقي بن قانع: مات بالبصرة سنة احدى وستين ومائة. قال المرزباني: وهم فيهما جميعاً أعني في الموضع والتاريخ.
[٢٦ - ومن أخبار أبي الحسن الأخفش وهو سعيد بن مسعدة]
المجاشعي، مولى بني مجاشع بن دارم، وضع كتباً في النحو، ومات قل استتمامها، ولو بقي وخرج علمه ما تقدمه أحد. وقيل: كان أعلم الناس بالكلام وأحذقهم فيه بالجدل، وكان غلام أبي شمر على مذهبه.
قال أبو عثمان المازني: قال لي الأخفش: أتلزم الأصمعي؟ قلت: ما أفارقه. قال: أتتعلم منه النحو؟ قلت: لا، ولكنني أتعلمُ منه المعاني واللغة والشعر. فقال: سلني عن شيء منه! فقلت: عن صعبه أم سهله؟ فقال: سهله. فقلت: مايريد الشاعر بقوله " من الهزج ":
أمن زينب ذي النارُ ... قبيل الصبح ماتخبو
إذا ما خمدت يلقى ... عليها المندلُ الرَطبُ
ولم أعرب البيت ألول كله؟ فقال الأخفش: أمن زينب صاحبة النار؟ فقلت: ليس هذا هكذا عنده، يريد: هذه النار التي تخبو. فقال: هذا أحسن.
قال المبرد: مات الأخفش بعد الفراء، ومات الفراء سنة سبع ومائتين بعد دخول المأمون العراق " بثلاث سنين ".
قال الأخفش: ".... " احتجت أنّ أركب في حاجة لي، فأردت أن أستعير منه دابته، ودابة لاتقع في الشعر لأن فيه حرفين ساكنين ملتقيين أحدهما الألف والآخر الباء المدغمة، فكتبت إليه " من المتقارب ":
أردت الركوب إلى حاجتي ... فمرُ لي بفاعلة من دببتُ
فكتب إليَّ " من المتقارب ":
بُريذيننا يا أخي غامز ... فكن محسناً فاعلاً من عذرتُ
وقال أبو حاتم السجستاني: كنت عند أبي الحسن الأخفش وعنده التوزي، فقال لي: ياأبا حاتم، ماصنعت في " كتاب المذكر والمؤنث "؟ قلتُ: قد عملت في ذلك شيئاً. قال: فما تقول في الفردوس؟ قلت: ذَكَر. قال: فإن الله عز وجلّ يقول: (الفرِدوسَ هُم فيهَا خَالِدونَ) . قلت: ذهب إلى الجنة فأنث. قال لي التوزي. ياغافل، أما تسمع الناس يقولون: أسألك الفردوس الأعلى!؟ فقلت: يانائم، الأعلى ههنا أفعل وليس بفعلي! قال الأخفش: حدثنا المجالد بن سعيد عن الشعبي قال: قالت كاهنة أشجع في الجاهلية: الرجالُ أربعة والنساء أربع: فطويل نعنع وقصير مدقع ومن لايضر ولا ينفع وأسك أصمع. وإنما أرادت الذكر فأوقعت اللفظ على الرجال والمعنى للذكر؛ وقولها: مُدقعٌ: لاشيء عنده من آلة الجماع، والأسك: الصغير الكمرة، ومن لايضر ولا ينفع: عنينٌ. والنساءُ أربعٌ: فمنهن الحرحة: وهي المساحقة، والشَّفرة: وهي التي شهوتها بين شفريها، والقعرة: التي شهوتها في أقصاه والعنينة.
قال الأخفش: سمعت عيسى بن عمر يقول: الزابن واحد الزبانية، وقال بعضهم: واحدها الزباني والزبنية، والعرب لاتكاد تعرف هذا وتجعله من الجمع الذي لاواحد له مثا أبابيل، وتقول: جاءت إبلي أبابيل أي فرقاً، وهذا يجيءُ في معنى التكثير مثل عبابيد وشعارير. - قال: وكُلّ ماكان من الأسماء الأعجمية تحسن فيه الألف واللام في حال المعرفة فاصرفه مثل راقودٍ وياقوت وطاووس وزن فاعول. - وقال في قوله صلى الله عليه وسلم: لايدخل الجنة قتات! القتات والقساس: النمام.
٢٧ - ومن أخبار النضر بن شُميل بن خرشة بن يزيد بن كلثوم المازنيّ