فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خِلْتُ أن المنتأى عنك واسعُ
خطاطيفُ حُجْنٌ في حبالٍ متينةٍ ... تَمُدُّ بها أيدٍ إليك نوازعُ
قالوا: النابغة، ياأمير المؤمنين! قال: هذا أشعرُ شعرائكم. فأقبل على الأخطل فقال: أتحبُ أنك قلته؟ قال: لا، والله إلا أنني وددتُ أني كنت قلتُ أبياتا قالها رجلٌ منا، كان والله - ماعلمتُ - مغدف القناع قليل السماع قصير الذراع. قال: وماقال؟ فأنشده قصيدته " من البسيط ":
إنَّا مُحيّوك فاسلم أيها الطللُ ... وإن بليت وإن طالن بك الطيلُ
ليس الجديدُ به تبقى بشاشته ... إلا قليلاً ولا ذو خلةٍ يصلُ
والعيشُ لاعيشُ إلا ماتقرُّ به ... عينٌ ولاحال إلا سوف تنتقل
إن ترجعي من أبي عثمان منجحةً ... فقد يهون على المستنجح العملُ
والناسُ من تلق خيراً قائلون له ... ما يشتهي ولأمٍ المخطئ الهبلُ
قد يُدرك المُتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
قال الشعبيُّ: قلت: والقُطامي قال أفضل من هذا! قال: وماقال؟ قلتُ " من الكامل ":
طرقتُ جنوب رحالنا من مطرقٍ ... ماكنتُ أحسبها قريبَ المعنقِ
حتى أتيت على آخرها، فقال عبد الملك: ثكلت القطامي أمه! هذا والله ألشعر. قال: فالتفت إليَّ الأخطل فقال: ياشعبيُّ، إنّ لك فنوناً في الأحاديث، وإن لنا فنَّاً واحداً، لاأعرض لك في شء من الشعر أبداً، فأقلني هذه المرة! قال: من يكفل بك؟ قلتُ: أمير المؤمنين! فقال عبد الملك: هو عليَّ أن لايعرض لك أبداً! ثمّ قال: ياشعبيُّ، أيُّ شعراء نساء الجاهلية كانت أشعر؟ قلت: خنساء! قال: ولم فضلتها؟ قلتُ: لقولها " من الطويل ":
وقائلةٍوالنعشُ قد فات خطوهالتدركه: يالهف نفسي على صخرِ
ألا ثكلتْ أمُّ الذين غدوا به ... إلى القبر ماذا يحملون إلى القبرِ
فقال عبد الملك: أشعرُ منها واللهِ ليلى الأخيلية حيث تقول " من البسيط ":
مهفهفُ الكشح والسربال منخرقٌ ... عنه القميصُ لسيرِ الليل محتقرُ
لايأمن الناس ممساه ومصبحه ... في كل فجٍ وإن لم يغزُ ينتظرُ
ثمّ قال: ياشعبيّ، لعله شقَّ عليك ماسمعت؟! قلت: إي والله، ياأمير المؤمنين، أشدَّ المشقة! إني إنما أعلمتك هذا لأنه بلغني أن أهل العراق يتطاولون على أهل الشام، يقولون: إن كانوا غلبونا على الدولة فلم يغلبونا على العلم والرواية، وأهل الشأم أعلم بعلم أهل العراق من أهل العراق. - ومكثت عنده سنتين، بعثني إلى أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر وكتب إليه: ياأخي، إني قد بعثت إليك بالشعبيّ، فانظر هل رأيت مثله؟! وقيل: لما دخل الشعبي على عبد الملك خطَّأه في مجلس ثلاث مرات، سمع الشعبيُّ منه حديثاً، فقال: اكتبنيه! فقال: نحن معاشر الخلفاء، ما نكتب أحداً! وذكر رجلاُ فكنَّاه، فقال: من هذا، ياأمير المؤمنين؟ فقال: الخلفاء لاتسأل عن جلسائها وهم يسألون! وقال قتادة: كتب عبد الملك إلى الحجاج أن ابعث إليَّ بأجمع رجلٍ عندك! فبعث إليه بالشعبيّ. فلما قدم عليه قال له عبد الملك: علم بني ستَّ خصال، ثمّ شأنك بعد تأديبهم! علمهم صدق الحديث كما تعلمهم القرآن، وعلمهم الشعر ينجدوا ويمجدوا - يعني أنهم يكونوا أسخياء وفرساناً - وجُزَّ شعورهم تشتد رقابهم، وأطعمهم اللحم تصح قلوبهم، وجنبهم الحشم فإنه مفسدة لهم، وجالس بهم علية الرجال يناقضونهم الكلام فإنه خيار الناس! وقال عبد الملك للشعبي: لله در ابن قميئة حيث يقول " من الطويل ":
كأني وقد خلفتُ تسعين حجةً ... خلعتُ بها عني عذار لجامي
رمتني بنات الدهر من حيث لاأرى ... فكيف بمن يُرمى وليس برامي
فلو أنها نبلٌ إذا لاتقيتها ... ولكنني أرمى بغير سهام
فقال الشعبي: لقد أحسن لبيدٌ أيضاً حيث يقول:
٦٢ - ومن أخبار سليمان بن مهران الأعمْش