فلم يكلمني عندها بشء وأخذ القرطاس ومدّ يده إلى دواة وجعل يكتب شيئاً لاأدري ماهو، ثمّ قال: يانضر، كيف تأمر إذا أردت أن تترب الكتاب؟ قلت: أتربه! قال: فمن الطين؟ قلت: طنه! قال: فهو ماذا؟ قلت: مترب مطين. قال: هذه أحسن من الأولى. ثمّ ناول الكتاب خادما، فمضى به إلى الفضل بن سهل، ففتح الكتاب وقال لي: مالسبب الذي وصلك فيه أمير المؤمنين بثلاثين ألفا؟ فأخبرته. فقال: سبحان الله ألحنت أمير المؤمنين؟ قلت: كلا، أيها الوزير، وإنما لحنه هشيم لأنه كان لحانه! فقال: حدثني عن الخليل بن أحمد! قلت: أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم الناس - وقال ابن مخلد والجوهري: صرت أنا والخليل إلى أبي ربيعة الأعرابي، فإذا هو على سطحٍ، فسلمنا فرد علينا السلام وقال لنا: استتوا! فبقينا متحيرين لم ندر ما قال. فقال أعرابي بحنبه: إنه يقول لكم: ارتفعوا! فاستخرجها الخليل من قول الله عز وجل: (ثُمَّ اسنوى إلى السَّماءِ وَهيَ دُخانٌ) أي ارتفع. فصعدنا فقال: هل لكم في خبز فطير ولبن خمير وماء نمير؟ فقلنا: لا! فقال: سلاماً! فبقينا أيضاً متحيرين لم ندر ماقال لنا. فقال الأعرابي: إنه سألكم متاركة لاخير بيننا ولاشرَّ! فاستخرجها الخليل من قول الله عز وجل: (وإذا خاطبهمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلاَما) . فقال الفضلُ: هذا أحسن مما حكيت للخليفة! فزادني من عنده عشرين ألفاً، فانصرفت بخمسين ألفاً.
ومرض النضر، فدخل الناس إليه يعودونه، فقال له رجل: مسح الله مابك! فقال النضر: لاتقل مسح بك، ولكن مصح! ألم تسمع قول الأعشى " من الرمل ":
وإذا ما الخمر فيها أزبدت ... أفل الإزبادُ فيها فمصحْ
فقال الرجل: لابأس! السين قد تعاقب الصاد فتقوم مقامها. فقال النضر: إن كان كذا فينبغي أن تقول لمن أسمه سليمان صليمان، وتقول: قال رصول الله! ثمّ قال النضر: لايكون هذا في السين إلا مع أربعة أحرف، الطآء والخآء والقاف والغين، فيبدلون السين بهذه، وربما أبدلوها بزاي، كما قالوا: سراط وصراط وزراط. - قال الصولي: وهذه يقال لها حروف الاستعلاء، تبدل إذا كانت بعد السين، فأما إذا كانت قبل فلا.
وقال النضر يوماً: أنشدونا من زهد ابي نواس! فأنشده " من الطويل ":
وما الناس إلا هالك وابن هالكٍ ... وذو نسبٍ في الهالكين عريقِ
فقال: قاتله الله لكأنه سمع الحسن يقول: إن امرءاً ليس بينه وبين آدم عليه السلام إلا أب ميت لنعرق في الموت. - وحدث حرب بن ميمون قال: رأيت خاتم النبي صلى الله عليه وسلم عند النضر وهو فضة أبيض.
ومات النضر رحمه الله سنة أربع ومائتين.
٢٨ - ومن أخبار أبي فيد مؤرِّج بن عمرو السَدُوسيّ
كان يقول: اسمي وكنيتي غريبان، اسمي مؤرج، والعرب تقول: أرجت بين القوم وأرشت إذا حرَّشت، وأنا أبو فيد والفيد ورد الزعفران زيقال: فاد الرجل يفيد فيداً إذا مات.
وقال: القنديد الكافور وأنشد " من الطويل ":
ببابل لم تعصر فجاءت سلافة ... تخالط قنديداً ومسكاً مختما
وقال المؤرج " من البسيط ":
روُعت بالبين حتى ما أراع به ... وبالمصائب في أهلي وجيراني
لم يترك الدهر لي إلفاً أضن به ... إلا اصطفاه بنأي أو بهجران
سمع " كتاب الأنواء " لمؤرج بجرجان، وخرج المأمون منه سنة أربع ومائتين، وخرج المؤرج إلى البصرة، فمات فيها.
[٢٩ - ومن أخبار أبي زيد الأنصاري]
وهو سعيد بن أوس بن ثالب " بن بشير بن ثابت بن زيد " بن قيس بن زيد بن النعمان بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج. وشهد ثابت أحداً والمشاهد بعدها، وهو أحد العشرة الذين بعث عمر رضي الله عنه مع أبي موسى الأشعري إلى البصرة وأحد الستة الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلة الله عليه وسلم، وله عقب بالبصرة.
وكان أبو زيد أعلم من الأصمعي وأبي عبيدة بالنحو وكانا بعده يتقاربان.
وقال المبرد: أبو زيد صاحب لغة وغريب ونحو وكان أكبر من الأصمعي في النحو، وكان أبو عبيدة أعلم من أبي زيد والأصمعي بالأنساب والأيام والأخبار، وكان الأصمعي بحراً في اللغة لايعرف مثله فيها وفي كثرة الرواية.
قال عبَّاس الأزرق: كنت عند شعبة بن الحجاج ذات يوم وقد اجتمع أصحاب الحديث ليحدثهم، فنظر إلى أبي زيد النحوي في أخريات الناس فرفع رأسه ثمّ قال " من البسيط ":