وروي أنّ الشعبي قال: ربما حدثت عبد الملك بن مروان وقد هيأ اللقمة فيمسكها في يده مقبلاً عليَّ، فأقول: أجزها فإن الحديث من ورائها! فيقول: الحديث أشهى إليَّ منها! - أجزها أي أزدردها! وقال ابن الصباح: أنشدت أبا محلم لعمر بن أبي ربيعة " من الطويل ":
ومانلتُ منها محرماً غير أننا ... كلانا من الثوب المضرَّجِ لابسُ
فقال لي: ألا أنشدك في هذا النحو ما يسجد هذا له؟! فقلت: إن رأيت، وقيت السوء! فأنشدني لابن ميادة " من الطويل ":
وما نلتُ منها محرماً غير أنني ... أُقبل بسَّاماً من الثغر أفلجا
وألثمُ فاها تارةً بعد تارةٍ ... وأترك حاجات النفوس تحرجا
وإني على سوط الهوى ذو تجلد ... أصابرهُ مالم أجدْ عنه مخرجا
ولاعيشَ إلا أن تبيت ملهوجاً ... على نار من تهوى وتصبحُ منضجا
وأنشد أبو محلم " من البسيط ":
وما يواسيك فيما ناب من حدثٍ ... إلا أخو ثقةٍ فانظر بمن تثقُ
فأنشسده أبو محلم للقطامي " من الكامل ":
وإذا ينوبك والحوادثُ جمَّةٌ ... حدثٌ حداك إلى أخيك الأوثقِ
توفي أبو محلم سنة خمسٍ - وقيل: ثمانٍ - وأربعين ومائتين.
٤٦ - ومن أخبار أبي قلابة الجَرْميّ
اسمه حبيشُ بن عبد الرحمان، وقيل: ابن منقذ، أحد الرواة الفهمة، وكان شاعراً وبينه وبين الأصمعي عداوة.
قال الجرمي: تخلفت عن حلقة العتبي أياماً، فكتب إلي: تركتنا ترك رجلٍ أوجده أو أغناه علمٌ، فإن كان من جرم فعن غير إرادةٍ بقلبٍ أو تعتمد بلسان، وإن كان من علم غنيت به فتصدق علينا (إنَّ اللهَ يجزْي المُتصدقينَ) .
وقال أبو قلابة " من الكامل ":
إلفانِ راحا مدنفينِ كلاهما ... خنسا السلام وسلَّمتْ عيناهما
حذرَ الرقيبِ عليهما فتصافحا ... باللحظ إذ أعياهما لفظاهما
ووعى ضميرهما العتاب لغير ما ... كانت أبانت لفظةً شفتاهما
رزُقا دقائقَ في اللحاظ مبينةً ... لهما ومشكلةً بفهم سواهما
فطنُ أرقُّ من الهواء كأنها ... إذ ترجمت لهواهما حسناهما
رقا ورقَّ على الهوى معناهما ... فتلاقت الأوهامُ دون هواهما
٤٧ - ومن أخبار أبي عمر الجَرْميّ
واسمه صالح بن لإسحاق البجلي، مولى بجيلة بن أنمار بن أراش بن الغوث، وإنما قيل له الجَرْميّ لأنه كان يلقب الكلب وأبا عمر النباح.
قال أبو عمر: مابقي شيءٌ عند الأصمعي من العربية والغريب إلا وقد أحكمته. فسمعه الأصمعي فقال: كيف تنشد " من الكامل ":
قد كُنّ يخبأنَ الوجوهَ تستّثراً ... فالآنَ حين بدأن للنظَّارِ
أو بدين؟ فقال: بدأن. فقال: خطاٌ! فقال: بل، بدين! فقال: خطاُ، إنما هو بدون لأنه من بدا يبدو إذا ظهر.
قال المبرد: كان التوزي والحرمازي والجرمي يأخذون عن أبي عبيدة وأبي زيد والأصمعي وهؤلاء الثلاثة أكبر أصحابهم، وكان من دون هؤلاء في السن الزيادي والمازني والرياشي وأبو حاتم، وكان التوزي أطلع القوم في اللغة وأعلمهم بالنحو بعد الجرمي والمازني، وكان المازني أجدَّ من أبي عمر في النحو، وأبو عمر أغوص منه.
٤٨ - ومن أخبار أبي الحسن عليّ بن المغيرة الأثْرم
قال: قرأت على مروان بن سليمان بن يحيى بن يزيد أبي حفصة قطعة من شعره. - ومن شعر الأثرم " من الطويل ":
كبرت وجاء الشيب والضعف والبلى ... وكلُّ امرئ يبلى إذا عاش ما عشتُ
أقولُ وقد جاوزت تسعين حجةً ... كأن لم أكن فيها وليداً وقد كنتُ
وأنكرت لما أن مضى جُلُّ قوَّتي ... ويزدادُ ضعفاً قوَّتي كلما زدتُ
كأني إذا أسرعتُ في المشي واقفُ ... لقربِ خطى ما مسها قصرٌ وقتُ
وصرتُ أخاف الشيء كان يخافني ... أعدُ من الموتى لضعفي وما متُ
وأسهرُ في طيب الفراش ولينه ... وإن كنت بين القوم في مجلس نمتُ
٤٩ - ومن أخبار أبي محمد عبد الله بن محمد التوزّيّ