٤٤ - ومن أخبار أبي العالية الشاميّ
اسمه الحسن بن مالك مولى العمين، نزل البصرة وأقام بها وقدم بغداد، فأدب العباس بن المامون وجالس المأمون، وكان أديباً شاعراً راويةً، سمع من الأصمعي. قال أبو العالية لما مات أحمد بن المعذل " منى السريع ":
لو لم يكن جدهم عاثراً ... وحظهم طاح بها طائحُ
ما مات منهم أحمد المرتضى ... وعاش عبد الصمد الفاضحُ
وقال في تقارب الخطو " من الطويل ":
أرى بصري في كل يومٍ وليلةٍ ... يكل وخطوي عن مدى الخطو يقصرُ
ومن صاحب الأيام سبعين حجةً ... يغيرنه والدهر لا يتغيرُ
لعمري لئن أمسيتُ أمشي مُقيَّداً ... لما كنتُ أمشي مُطلقَ القيَّد أكثرُ
قال أيضاً " من الطويل ":
ولو أنني أعطيتُ من دهريّ المُنى ... وما كُلُّ من يعطي المُنى بمُسدَّدِ
لقلت ل] ام مضين: ألا ارجعي ... إلينا! وأيامٍ أتَيْنَ: ألا ابعِدي
وقال " من الطويل ":
وما آثرَ التقصيرَ إلا مُذمَّمٌ ... رأى نفسه حلَّت محلَّ المقصرِ
وكُلُّ امري يولبك ما هو أهلهُ ... فأهل لمعروف وأهل لمنكرِ
٤٥ - ومن أخبار أبي محلَّم السَعْديّ
وهو محمد بن هشام بن عوف التميمي أعرابيُّ. قال مؤرجٌ: أبو مُحلم أحفظ الناس، أخذ مني كتاباً فحبسه ليلةً، ثمّ جاء به وقد حفظه وأنشد لأبي الأسود الدؤلي " من الطويل ":
إذا قلتُ: أنصفني ولا تظلمني ... رمى كلَّ حقٍ أدَّعيه بباطلِ
فباطلته حتى ارعوى لي كارها ... وقد يرعوي ذو الشغب بعد التجادلِ
رأى الواثق بالله في منامه كأنه يسأل الله الجنة وأن يتغمده برحمته ولا يهلكه فيما هو فيه، وأنّ قائلاً قال له: لايُهلك اللهُ إلا من قلبه مَرْتٌ. فأصبح فسأل الجلساء عن ذلك، فلم يعرفوا حقيقته. فوجه إلى أبي محلم فأحضره الباب وسأله عن الرؤيا والمرت، فقال أبو محلم: المرتُ من الأرض القَفْرُ التي لانبت فيها، فالمعنى على هذا: لايهلك على الله إلا من قلبه خالٍ عن الإيمان خُلُو المرت من النبات. فوجه الواثق إليه: أريدُ شاهداً من الشعر. فأفكر أبو محلم طويلاً، فأنشده بعض من حضر بيتاً لبعض بني أسد " من الطويل ":
ومرتٍ مروراةٍ يحار بها القطا ... ويُصبحُ ذو علْمٍ بها وهو جاهلُ
فوجه بالبيت وضحك، ثمّ قال للذي أنشده: ربما بعدُ الشيء عن الإنسان وهو أقرب إليه مما في كمه، واللهِ لاتبرح حتى أنشدك! فأنشده للعرب مائة بيتٍ معروفٍ لشاعرٍ معروفٍ، في كل بيتٍ منها ذكرُ المرت. فبلغ ذلك الواثق، فأمر له بألف دينار. وأراده لمجالسته، فأبى أبو محلم، وقيل للواثق: إنه حِلْفٌ جافِ! فتركه.
وقال في العبَّاس بن الأحنف " من المنسرح ":
إني وإن كنتُ لاأراك ولا ... أطمعُ في ذلك آخر الأبدِ
لقانع بالسلام يبلغني ... عنك فيشفي حرارة الكبد
وأمزج الهمَّ بالسرور اذا ... أيقنتُ أنا جاران في بلدِ
وكان يضع من العباس، فلما أنشد هذا قال: وأبيك لقد شكا وقنع، وإن كان له شيءُ مليحٌ فه١ا. - وقال بعض شعراء البصرة فيه " من البسيط ":
وخادعتك تميمٌ فانخدعت لها ... أبا المحلم والمخدوع مخدوع
لو أن موتى تميمٍ كلها نشروا ... وثبتوك لقال الناسُ: مصنوعُ
إنّ الجديد إذا ما زيد في خلقٍ ... تبين الناسُ أنّ الثوب مرقوع
قال أبو محلم: لما قدمت مكة لزمت مجلس ابن عيينة، فقال لي يوما: لاأراك تحظى بشء مما تسمع. قلتُ: وكيف؟ قال: لأني لاأراك تكتب. فقلت: أني أحفظ! فاستعاذ مني مجالس، فأعدتها على الوجه. فقال: حدثنا الزهري عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: يولد في كل سبعين سنة من يحفز كل شيبء. قال: وضرب بيده على جنبي وقال: أراك صاحب السبعين.
قيل لأبي محلم: مات الضعفاء، في هذا الغلاء، وسلم الأقوياء. فقال: أما سمعت " من البسيط ":
رأيتُ جلتها في الجدب باقيةٍ ... تنفي الحواشي عنها حين تزدحمُ
إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت ... عيدان نجد ولم يعبأ بها السلمُ