وانصرف أبو عبيد يوماً من الصلاة فمرّ بدار إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فقالوا له: ياأبا عبيد، صاحبُ هذه الدار يقول: إنّ في كتابك " غريب المصنَّف " ألف حرفٍ خطأٌ. فقال أبو عبيد: كتابٌ فيه أكثر من مائة ألف حرفٍ يقع فيه ألف حرفٍ خطأ ليس بكثير، فلعلّ إسحاق عنده رواية وعندنا رواية ولم يعلم فخطأنا والروايتان صواب، ولعله أخطأ حروفاً وأخطأنا في حروف فيبقى الخطأ شيءٌ يسير! - وقال أبو عمرو: فيه خمسةُ وأربعون حديثاً لاأصل لها، أُتي فيها أبو عبيد عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، منها: إنّ أهل قاهٍ أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب لهم كتاباً. وما علمتُ في الدنيا أهل قاهٍ ولا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب لهم. وعنه: إذا شبعتن بطرتن، وإذا جُعتن دقعتنّ. قال: والذي عندي أنّ أبا عبيد أُتي من قبل أبي عبيدة.
قال أحمد بن كامل: كان أبو عبيد فاضلاً في علمه ودينه ربانيَّاً مفتياً في أصناف علوم الإسلام صحيح النقل، لاأعلم أحداً طعن عليه في شيء من أمره ودينه. - وكان مؤدباً لأولاد الهراثمة، وصار في ناحية عبد الله بن طاهر.
روى عن أبي زيد الأنصاريّ وأبي عبيدة والأصمعي واليزيدي وغيرهم من البصريين، وروى عن ابن الأعرابيّ وأبي زياد الكلابيّ والأُموي وأبي عمرو الشيباني والكسائي والأحمر والفراء. وروى الناسُ من كتبه المصنَّفة بضعةً وعشرين كتاباً في الفقه والقرآن وغريب الحديث والغريب المصنَّف والأمثال ومعاني الشعر، وله كتب لم تُرْو.
قال أبو عبيد: ربانيو العلم أربعة: فأعلمهم بالحلال والحرام أحمد بن حنبل، وأحسنهم سياقةً للحديث وأداءً له عليّ بن المدينيّ، وأحسنهم وضعاً لكتابٍ ابن أبي شيبة، وأعلمهم بصحيح الحديث وسقيمه يحيى بن معين.
حجّ أبو عبيد، فتوفي بمكة ثلاث وعشرين ومائتين. ورثاه عبد الله ابن طاهر " من البسيط ":
ياطالبَ العلم قد أودى ابن سَلاّم ... قد كان فارسَ علمٍ غير محجام
أودى الذي كان فينا رُبع أربعةٍ ... لم يُلف مثلهمُ إستارُ أحكامِ
خير البَريَّة عبد اللهُ عالمها ... وعامرٌ ولنعم المرءُ يا عامِ
هما أنافا بعلمٍ في زمانها ... والقاسمان: ابن معنٍ وابنُ سَلاَّمِ
[٩٨ - ومن أخبار النضر بن حديد]
كنيته أبو صالح، وكان صديقاً للمعتصم أيام الحسن بن سهل وهو إذ ذاك كأحد بني هاشم. فلمَّا علا أمره في أيام المأمون جفاه وحجبه، فقال النضر " من الطويل ":
تصغَّرْ أبا إسحاق في الإذن إنني ... رأيتك تجفوني وأنت كبيرُ
قد اغنى إله الناسُ طُرَّاً بفضله ... فتركك لي خطبٌ عليَّ يسيرُ
إذا ما أتيتُ البابَ لم أر آذناً ... ضحوكاً ولا من بالسلام يُشيرُ
فبلغت أبياته المعتصم، فدعاه ووصله واعتذر إليه وأمر ألا تحجب عنه.
٩٩ - ومن أخبار أبي محمّد إسحاق بن إبراهيم الموصليّ
كان أحد العلماء باللغة والغريب وأخبار الشعر وأيَّام الناس، وكان شاعرا مجيداً، وقد روى من العلم والأخبار قطعة حسنة. روى عنه مصعب بن عبد الله الزبيري والزبير بن بكار وغيرهما. وله مع أبي عبيدة والأصمعي وغيرهما من أهل العلم أخبار قد بينُت في " كتاب المستنير ".
قال إسحاق: نحنُ فُرسٌ من أهل أرَّجان وموالينا قوم من الحنظليين. - وكان سبب قولهم الموصلي أنه سافر إلى الموصل في طلب الغناء، فلمَّا رجع بعد سنة قال إخوانه من الفتيان: مرحباً بالفتى الموصليّ! فلجَّت عليه.
وهو من أهل بيت شرف وفخر وقد في العجم، ثمّ إنه نبت به الدار، فخرج ماهان بأم إبراهيم وهي حاملٌ به حتى نزل الكوفة في بني دارم، ولهج إبراهيم بالغناء، فطلبه عربيةً وعجميةً عند كلّ من لقي من أهله من الرجال والنساء، وشخص فيه إلى البلدان حتى خرج إلى الري، وكان أول ما شهر من غنائه ما غني بالري، وصادق الأشراف، فأحبوه، وكان كثير الإخوان.
ولد في آخر أيام المنصور. - قال ثعلب: رأيتُ لإسحاق ألف جزء من لغات العرب سماعه، وما رأيت اللغة في منزل أحدٍ قطٌّ أكثر منها في منزل إسحاق ثمّ في منزل ابن الأعرابيّ. - وكان إسحاق ثقةً صدوقاًعالماً.