مرّ عبيد الله على راعٍ في ظل حائط ومعه غنمٌ يرعاها، فقال: ياراعي، هل من لبن؟ قال: أنا مملوك وهذه الغنم لمولاي، ولايسعني ماتسألني ولا يحلُّ لي. قال وهو يطعم وإلى جنبه كلبٌ يأكل لقمةً ويلقي إليه لقمةً، فقال عبيد الله: إنك لعجبٌ! قال: وماذاك؟ قال: أراك تقاسم الكلب طعامك. قال: أولاً أستحيي من ذي عينين يراني آكل ولاأطعمه؟! قال له: فلمن هذه الغنم؟ قال: لبني فلان من أهل المدينة. قال: ومملوك من أنت؟ قال: لهم. قال: فلمن هذا الحائط؟ - يعني البستان. قال: لهم. قال: فأتى عبيد الله بن معمر مواليه، فقال: أتبيعوني مملوككم فلاناً؟ قالوا: نعم! قال: والغنم؟ قالوا: نعم! قال: والبستان؟ قالوا: نعم! فاشتراها كلَّها، ثمّ أقبل إلى الراعي فقال له: أنت، ياراعي، حُرٌّ لوجه الله! قال: الحمد لله على ذلك! قال: وقد اشتريتُ الغنم فهي لك! قال: أشهدك، يامولاي، إنها صدقة على المساكين! قال: وقد اشتريت الحائط وهو لك! قال: أشهدك، يامولاي، إنه وقفٌ على فقراء أهل المدينة! فانصرف عبيد الله وهو يقول: مارأيت كاليوم مثل هذا العبد لله درُّه! واشترى عبيد الله جارية بعشرين ألف دينار، كانت تُسمى الكاملة من الغناء وجودة الضرب ومعرفة الألحان والقرآن والشعر والكتابة وفنون الطبيخ والعطر. وكانت عند فتىً قد أدبها لنفسه، وكان يجدُ بها وجداً شديداً، فلم يزل ينفق عليها حتى أملق واحتاج. فقالت له الجارية: والله إني لأرثي لك وأشفق عليك، ولو أنك بعتني نلت غنى الدهر ولعل الله أن يصنع لنا جميلاً. فحملها إلى عبيد الله، فأعجبته، فاشتراها. فلما قبض الفتى المال استعبر كلّ واحدٍ منهما إلى صاحبه، فأنشأت تقول " من الطويل ":
هنيئاً لك المالُ الذي قد حويته ... ولم يبقَ في كفيَ إلا تفكُّري
أقولُ لنفسي وهي في عين كربةٍ ... أقلي فقد بان الحبيبُ وأكثري
إذا لم تكن للأمر عندك حيلةٌ ... ولم تجدي شيئاً سوى الصبر فاصبري
فقال الفتى " من الطويل ":
ولولا قعود الدهر بي عنك لم يكن ... تفرقنا شيئاً سوى الموتِ فاعذري
أبوءُ بحزنٍ من فراقك موجعٍ ... أناجي به قلباً طويلَ التفكرِ
عليك سلامٌ لازيارةً بيننا ... ولاوصلَ إلا ان يشاءَ ابنُ معْمَرِ
فقال عبيد الله ورقَّ لهما: خذ بيدها وانصرفا راشدين! والمالُ الذي نقدته في ثمنها أنفقه عليها! واللهِ لا أخذتُ منها درهماً.
قُتل عبيد الله بن معمر لأربعين سنو برستاق من رساتيق إصطخر في زمن عثمان بن عفان، ومات ابنه عمر لستين سنة بالشأم بموضع يقال له ضمير، فرثاه الفرزدق وقال من أبيات " من البسيط ":
يا أيها الناسُ لاتبكوا على أحدٍ ... بعد الذي بضميرٍ وافقَ القَدَرا
كانت يداه لكم سيفاً يعاذُ به ... من العدوِ وغيثاً ينبتُ الشجرا
فابكي هبلتِ أبا حفصٍ وصاحبه ... أبا معاذٍ إذا المولى به انتصرا
٤١ - ومن أخبار محمد بن حفصٍ
روى عنه ولده عبيد الله بن محمد بن عائشة، وكان جواداً فصيحاً شاعراً. قال يحيى بن معين: العائشي رجل صدقٍ، ليس ممن يكذب إلا أنه سمع صغيراً.
ورد أعرابيٌ على محمد يسأله شيئاً، فقيل له: ويحك إن عليه ديناً! إذ طلع محمد، فقال له الأعرابيُّ: يا أبا عبد الرحمان، قد والله أخبروني بعذرك ولكن مثلك ومثلي كما قال من هو قبلي، وقد أنبئت أن عليك ديناً، فزد في رقم دينك واقض ديني! فأمر له ببدرة.
رئي ابن عائشة في يومٍ شديد الحر نصف النهار بالبصرة وهو على حمار وبين يديه غلامان، فقيل له: في مثل هذا الوقت؟ فقال: نعم! " من الطويل ":
حقوقٌ لأقوامٍ أريدُ قضاءها ... كأني إذا لم أقضهن مريض
عُزي محمد بن عائشة في ابن له، فأنشد " من الطويل ":
يُعزي المُعزي ساعةً ثمّ تنقضي ... ونفسُ المُعزَّى في أحرَّ من الجمرِ
لأن المُزّي إلفهُ في مكانه ... وإلفُ المُعزَّى في ضريح من القبر
وقال عبد الله بن شبيب: رايت ابن عائشة وقف على قبر ابنٍ له قد دفن، فزفر زفرةً ثم قال " من الطويل ":
إذا ما دعوتُ الصبر بعدك والبُكا ... أجاب البُكا طوعاً ولم يجبِ الصبرُ