قال البغويون الذي كانوا مع أبي مسلمٍ: مكثنا مع أبي جعفر المنصور هنة نغدو من قطربل إلى الموضع الذي فيه المدينة نرتاد موضعاً، فبينا نحن إذ وقف على قائم - في باب الشأم - وفيه راهبٌ، فأشرف عليه، فقال: أراك منذ شهور تدور وتكثر الترداد. فقال: أريد أن أبني في هذا الموضع مدينة. فقال له الراهب: لست صاحبها، إنَّا نجد أن صاحبها يقال له مقلاصٌ! فقال أبو جعفر المنصور: أنا والله صاحبها، كنتُ أُدعى وأنا صبيٌّ في الكتَّاب بمقلاص! فأمر حينئذ أن تُصور له المدينة.
ووضع المنصور أول لبنة بيده وقال: بسم الله والحمد لله (يُورثها مَنْ يشاء من عبادهِ والعاقبةُ للمُتَّقين) ، ابنوا على بركة الله! - ووليَّ أبا حنيفة الفقيه القيام ببناء المدينة وبضرب اللبن وعدده حتى فرغ من استتمام بناء المدينة مما يلي الخندق، وذلك في سنة تسع وأربعين ومائة.
وخرج الأمر بأن يعمل على المدينة ثمانية أبوابٍ حديد ممَّا يلي كلُّ ربع - بابين باباً على الخندق وباباً على السور. قال: فمن الثمانية خمسةٌ مما كان على مدينة الزندورد، وهي مدينة كانت في ظهر واسد من عمل الشياطين لسليمان ان داود، فنقلها الحجَّاج إلى واسط حين بناها، وهي الأربعة الأبواب الداخلة من كل باب، والخامس بابُ البصرة الخارج؛ وأمَّا الباب السادس الخارج من باب خراسان من عمل الشأم فهو من عمل الفراعنة، وباب الخارج من باب الكوفة جيء به من الكوفة عمله خالد بن عبد الله القسري، وباب الشأم الخراج عمله المنصور وهو أضعفها.
ولمَّا تمّ بناء المدينة وأراد المنصور النقلة إلى قصره بباب الذهب وقف على باب القصر يتأمله، فإذا على الحائط مكتوب: ادخل القصر " من الخفيف ":
ادخُلِ القَصْر لاتخافُ زوالا ... بعد ستين من سنيك رحيل
فوقف ملياً، فتغرغرت عينه، ثمّ قال: بقية لعاقل وفسحة لجاهل! كأنه حسب ما بقي من السنين. - ومات أبو جعفر المنصور ببئر ميمون لست من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين وهو ابن أربع وستين سنة، فعاش بعد بناء المدينة اثنتي عشرة سنة، وفد عليه بطريق من بطارقة الروم، فأمر الربيع أن يطوف به في المدينة وما حولها. فلمَّا انصرف قال: كيف رأيتها.؟ قال: حسنا إلا أنّ أعداءك معك. قال: ومن هم؟ قال: السوقى. قال: فلمَّا خرج البطريق أمر بإخراجهم من المدينة، ثمّ أمر ببناء القصر الجديد الذي يُسمَّى الخُلد، وكان ينهي عن تسميته بهذا الاسم.
ومن أخبار العلماء والنحاة والرواة من أهل بغداد ومن طرأ عليها من الامصار
منهم ابن يسارٍ القُرشيّ المَدَني هو
٩٠ - محمّد بن إسحاق بن يسارٍ
أبو عبد الله، ويقال: أبو بكر، ويسارٌ مولى عبد الله بن قيس بن مخرمة وهو أول سبيٍ دخل المدينة من العراق. سمع من ابن شهابٍ والأعمْش، وهو أوّلُ من جمع مغزي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتوفيّ ببغداد سنة أربع وخمسين ومائة. وقال عنه سُفيان: هو أمير المؤمنين في الحديث لحفظه، وكان يتشيع يقدم عليَّاً على عثمان.
٩١ - ومن أخبار ابن دَأبٍ
كان أبو الوليد عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب من رواة الأخبار والأشعار وحُفَّاظهم، وكان من الحجاز، وجدَّهُ دأب بن كرز بن عبد الله بن أحمر.
وعد المَهدي ابن دأبٍ جاريةً، ثمّ وهبها له، فأنشد عبد الله بن مصعب الزُبيري قول مُضرسّ الأسدي " من الطويل ":
فلا تيأسَنْ من صالحٍ أن تناله ... وإن كان قدماً بين أيْدٍ تُبادرهْ
فضحك المهدي وقال: ادفعوا إلى عبد الله فُلانة لجاريةٍ أخرى! فقال عبد الله " من الرجز ":
أنْجز خيرُ الناس قَبْل وعده ... أراح من مطل وطولٍ كَدّهِ
فقال أبن دأب: ماقلت شيئاً؟ هلاَّ قلت " من الرجز ":
حلاوةث الفْضلِ بوعدٍ يُنجزُ ... لا خيرَ في العُرف كَنْهبٍ يُنهزُ
وقال إبراهيم بن المنذر الحزامي: أملي عليَّ محمّد بن مناذر " من الوافر ":
ومَن يَبْغ الوصاة فإنّ عندي ... وصاةً للكُهُول وللشبابِ
خُذوا عن مالكٍ وعن ابن عونٍ ... ولا ترزووا أحاديث ابن دأبِ
ترى الغاوينَ يتَّبعون منها ... ملاهي من أحاديث الكذابِ
إذا طُلبت منافعها اضمحلتْ ... كما يرفضُّ رقراقُ السرابِ