قال ابن سلام: حدثني أبانُ بن عثمان قال: جاء رجلٌ من جند عبد الملك ابن مروان ومعه ابنه إلى عبد الملك، فقال: ياأمير المؤمنين، إني تزوجتُ امرأة وزوجت باني أُمها، فلو أمرت لنا بأعطياتنا فنرُمَّ من شأننا ونضُمَّ إلينا أهلنا. قال: فإذا ولد لكما غلامان فما قرابة بينهما؟ إن أصبت أعطيتكما. ففكر ساعة ثم قال: ياأمير المؤمنين، هذا صاحب شرطتك قلدته سيفك وما وراء بابك إن أصابها فلا تعطني، وإن لم يصبها فأنا أعذر. فقال: صدقت! فسأله عنها، ففكر طويلاً ثمّ لم يُحر جواباً. فناداه رجلٌ من أقصى الصف من أهل العراق: إن أنا أصبتها تأمر لي بحاجتي؟ قال: نعم! قال: ابن الأب عمُّ ابن الابن، وابن الأبن خالُ ابن الأب. - قال ابن سلام: فسألني عنها شعبة وأنا غلام.
ومات ابن سلام ببغداد سنة ثنتين وثلاثين ومائتين، ومات أخوه عبد الرحمان بن سلام بالبصرة في هذه السنة بينهما أيامٌ.
٣٨ - ومن أخبار أبي عبد الرحمن العٌتْبِيّ
وهو محمد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس.
قال الأصمعي: الخطباء من بني أمية عبد الملك بن مروان وعتبة بن أبي سفيان. - قال عتبة بن أبي سفيان لبعض ولده: يابُنّيَّ، بزّهْ سمعك عن سماع الخنى كما تنزه لسانك عن اللفظ به، فإن السامع شريك القائل، وإنما عمد إلى شر ما في وعائه، فأفرغه في وعائك، ولو رددت كلمة الجاهل في فيه لسعدت بها كما شقي هو بها. ثم أنشأ يقول " من المتقارب ":
تحرَّ من الطرق أوساطها ... وعد عن الجانب المُشتَّبه
وسمعك صُنْ عن سماع القبيح ... كصون اللسان عن اللفظ به
فإنك عند استماع القبيح ... شريكٌ لقائله فأنتبه
وكم أزعج الحرص من طالب ... فأدركه الموتُ في مطلبه
وقال عتبة لمؤدب ولده: ياعبد الصمد، ليكن إصلاحك بني إصلاحك نفسك، فإن عيوبهم إليك والحسن عندهم ما استحسنت والقبيح عندهم ما استقبحت، علمهم كتاب اللهِ ولاتُملَّهم فيكرهوه ولاتدعهم منه فيهجروه، وروهم من الشعر أعفه ومن الحديث أشرفه، ولاتخرجهم من علم إلى علم حتى يُحكموه، فإنَّ ازدحام العلم في الفهم مضلة للفهم، وجنبهم محادثة النساء وأشغلهم بسير الحكماء، وهددهم بي وأدبهم دوني، وكن لهم كالطبيب الرفيق الذي لايعجل من الدواء حتى يعرف موضع الداء، وقد أتكلت على كفايةٍ منك فلا تتكلن على عّذرٍ مني، واستزدني بزيادتهم أزدك إن شاء الله! واستعمل عتبة رجلاً من آله على الطائف، فظلم رجلاً من الأزد من شنؤة، فأتى الأزدي عتبة فمثل بين يديه فقال " من البسيط ":
أمرت من كان مظلوماً ليأتيكم ... فقد أتاك غريبُ الدار مظلوم
ثمّ ذكر ظلامته، فقال عتبة: إني أراك أعرابياً جافياً، والله ما أحسبك تدري كم تصلي في كل يوم وليلةٍ. فقال: أرايت إن أنبأتك ذا، أتعجل لي عليك مسئلة؟ قال: نعم. قال الأعرابي " من الرجز ":
إن الصلاة أربعٌ وأربعُ ... ثمّ ثلاثٌ بعدهن أربعُ
ثمّ صلاة الفجر لاتضَيَّعُ
قال: صدقت فسل! قال: كم فقارُ ظهرك؟ قال: لاأدري. قال: أفتحكم بين الناس وأنت تجهل هذا من نفسك؟! فقال: رُدُّوا عليه غُنيمته! وقال سعد القصر مولى عتبة: احتسبت علينا كُتُب معاوية حتى أرجف أهل مصر بموته، ثمّ قدم كتابه بسلامته، فصعد عتبة بن أبي سفيان المنبر والكتاب بين يديه فقال: ياأهل مصر، قد طالت معاتبتنا إياكم بأطراف الرماح وظبات السيوف، حتى صرنا شجى في لهاكم ما تسوغها حلوقكم، وأقذاء في عيونكم ماتطرف عنها جفونكم. أفحين اشتدت عرى الحق عليكم عقدا واسترخت عقد الباطل منكم حلاً!؟ أرجفتم بالخليفة وأردتم توهين الخلافة وخضتم الحقَّ إلى الباطل، وأقدم عهدكم به حديثٌ؟! فاربحوا أنفسكم إذ خسرتم دينكم! وهذا كتابُ أمير المؤمنين بالخبر السار والعهد القريب منه، واعلموا أن سلطاننا على أبدانكم دون قلوبكم، فأصلحوا لنا ما ظهر، نكلكم إلى الله فيما بطن، وأظهروا خيراً وإن أسررتم شرَّاً، فإنكم حاصدون ما أنتم زارعون، وعلى الله أتوكل وبه أستعين! ثمّ نزل.