وكتب معاوية إلى عتبة وهو والي مصر في عقوبات أقوام، وأمره أن لا يراجعه في ذلك، فكتب إليه عتبة: بالله على أداء حقك أستعين وعليه في جميع أمرك أتوكل، أنا مقتدٍ بكتابك ومنتهٍ إلى أمرك ومتخذه إماماً ما أمَّ الحزم، فإذا خالفه فعندها المراجعة لئلا يرجع عليك ضرره، ولم يغب أمير المؤمنين عما شهدت، ولم يرجع إليه ضرر مافعلت؛ وقد علم من قبلي أن ناري ذكيَّة الشعل لمن عاداك، وأن جنابي أحلى من العسل لمن والاك، فليثق بذلك مني لهم وعليهم وأنا أستكفيك الذي استكفاني بك، ولاقوة إلا بالله. فلما ورد كتابه على معاوية قال: كلامٌ موجزٌ وعقلٌ محرزٌ، فليعمل برأيه.
وعن أبي عطاء مولى عتبة قال: قدم علينا ابن عباس سنة إحدى وأربعين وهو كالقرحة المنبجسة، قال: فكان عتبة قليل الكلام، فنظر ابن عباس إلى عتبة يُحدُّ النظر إليه ويقل الكلام معه، فقال له: ياأبا الوليد، مالك تحد النظر - إليَّ وتقل الكلام معي، ألعقلةٍ فطالت أم لموجدة فدامت؟ فقال عتبة: ياأبا العباس، أما قلةُ كلامي معك فلقلته مع غيرك، وأما كثرة نظري إليك فلما أرى من أثر سبوغ النعمة عليك، ولئن سلطت الحقَّ على نفسك لتعلمن أنه لايعرض عنك إلا مبغض ولا ينظرُ إليك إلا محبُّ، ولئن كان هذا الكلام شفي منك داءً وأظهر منك مكتوماً ماأحبُ غيره. فقال ابن عباس: أمهيت، ياأبا الوليد! - يقال: أمهيت الحديدة إذا حددتها على المسن، يريد: بلغت الغاية في العذر - ولو كنتُ على يقين مما ظننت بك لكفاني أو لأرضاني دون ما سمعت منك. فتبسم معاوية ثمّ قال " من الرجز ":
دعوتُ عركاً إذ دعا عراكا ... جندلتان اصطكتا اصطكاكا
من ينك العير ينك نياكا
لاتدخلوا بين بني عبد منافٍ، فإن الحلم لهم حاجزٌ، والداخل بينهم عاجزٌ، وإن فطنة ابن عباس مقرونة بفطنته، ثم تمثل " من الطويل ":
سمينُ قريشٍ مانعٌ منك شحمهُ ... وغثُّ قريش حيث كان سمين
قال معاوية، لما مات أخوه عتبة، لولده: رحم الله أباكم وآنس وحشة عمكم وأحسن الخلافة عليكم، هلك أقربُ الناس إليَّ بعد والدي وأحبهم إليَّ بعد يزيد، ولئن كانت المنية أخطأتني لقد أصابتني. - توفي أبو سفيان سنة أربع وثلاثين وصلى عليه عثمان بن عفان، وتوفي ابنه عتبة سنة أربع وأربعين حين صدر معاوية عن الحج.
ودخل الرفزدق على عمرو بن عتبة في يوم حار وهو يسلت العرق عن جبينه ويقول " من البسيط ":
لولا ابن عتبة عمروٌ والرجاءُ له ... ما كانت البصرة الحمقاء لي وطنا
أعطاني المال حتى قلت: يودعني ... أو قلت: يدفع حقَّاً قد آراه لنا
فجوده متعبٌ شكري ومنته ... وكلما ازددت شكراً زادني مننا
يرمي بهمته أقصى مسافتها ... ولا يريد على معروفه ثمنا
فأعطاه عليها مائة دينار، وقيل: ألف دينار.
ومن دعاء عمرو بن عتبة: اللهم أعني على الدنيا بالقناعة وعلى الدين بالعصمة. اللهم إني أعوذ بك من طول الغفلة وإفراط الفطنة. اللهم لاتجعل قولي فوق عملي، ولاتجعل أسوأ عملي ماولي أجلي. اللهم إني استغفرك ما أملك وأستصفحك لما لاأملك. اللهم لاتجعلني ممن إن مرض ندم وإن أستغنى فتن وإن افتقر حزن.
قال الربيع الحاجب. لما مات المنصور قدمت وفود الأمصار على المهدي يعزونه، فما حفظنا عنهم شيئاً نستطرفه إلا كلمات من العتبي البصري فإنه قال: آجر الله أمير المؤمنين على أمير المؤمنين قبله وبارك لأمير المؤمنين فيما خلفه له، فلا مصيبة أعظم من موت والدٍ إمامٍ ولا عقبى أفضل من خلافة الله على أولياء الله، فاقبل يأامير المؤمنين من الله أفضل العطية واحتسب عنده أعظم الرزية! فقال النمهدي: من هذا الرجل؟ فقيل: من بني أمية من ولد عتبة بن أبي سفيان. قال: ماظننت أنه بقي من أعجازهم ماأرى.
وأولم محمد بن خالد الثقفي فدعا أبان بن عبد الحميد اللاحقي وسهم بن عبد الحميد الحنفي والحكم بن قنبر وعبيد الله بن عمرو العتبي، فاحتبس عنهم الغداء، فجاء محمد بن خالد فوقف على الباب فقال: ألكم حاجة؟ يمازحهم بذلك، فقال أبانُ " من السريع ":
حاجتنا عَجِلْ علينا بها ... من الحشاوي كُلُّ طردين
فقال ابن قنبر " من السريع ":
ومن خبيص قد حكت عاشقاً ... صفرته زين بتكوين