فطالت عليَّ تلك الليلة حتى أصبحت، فأتيتُ المسجد الذي وصف لي، فإذا شابٌ جميلٌ. فلمَّا رآني قال: يافتى، ماكساك فلان حُلَّته ولا حملك على بغلته إلا وأنت تحب الله ورسوله، حدثني في عليّ رضي الله عنه! قلت: حدثني أبي عن جدي عن أبيه قال: كُنَّا ذات يوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أقبلت فاطمة وهي تبكي. فقال لها: يافاطمة، مايبكيك؟ قالت: عيَّرتني نساء قريش وقلن: إن زوجك مُعدم، لامال له. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: يافاطمة، لاتبكينَّ! فوالله ما زوَّجتك إياه حتى زوجك الله إياه من فوق العرش، وشهد ذلك أسرافيل وميكائيل وجبريل عليهم السلام، والله عزّ وجلّ اطلّع على أهل الدنيا فاختار من الخلائق عليَّا، فزوجك إياه. فعليٌّ من أعلم الناس وأقدم الناس إسلاماً وأسمح الناس كفَّاً وأشجع قلباً، فإذا دعيتُ غداً في القيامة دُعي عليٌّ معي، فإذا حُييّت حُيّيَ عليٌّ معي، إذا كان يوم القيامة يكسى أبوك حُلتين وعليٌّ حُلتين، ولواءُ الحمد بيدي فأناوله عليَّاً لكرامته على الله عزّ وجلّ. يافاطمة، عليٌّ يعينني على حمل مفاتيح أبواب الجنة يوم القيامة.
فلَّما قلتُ ذلك للفتى قال: من أنت؟ قلت: من أهل الكوفة. قال: عربيٌّ أم مولىً؟ قلتُ: بل، عربيُّ. فوهب لي عشرة ىلاف درهم وقال: يافتى، إذا كان غداً فأت مسجد بني فلان لعلك ترى أخي المبغض لعليّ.
فطالت عليَّ تلك الليلة، فلمَّا أصبحت أتيتُ المسجد، فقمتُ في الصفّ وإلى جنبي شابٌ معتمٌّ، فذهب ليركع، فسقطت العمامة عن رأسه فإذا رأسه رأس خنزير ويده يد خنزير، فوالله ما علمت ما أقول في صلاتي حتى سلّم اٌمام، فالتفت إليه فقلت: ويحك مالك وماحالك؟ قال: لعلك صاحب أخي؟ قلت: نعم. فأخذ بيدي فأتى بي باب داره وقال: ترى هذا الباب؟ ثم أدخلني دهليزه فإذا فيه دكان، فقال لي: ترى هذا الدكاَّن؟ قلت: نعم. قال: كنتُ مؤذناً في هذا المسجد منذ أربعين سنة، وكنتُ ألعنُ عليَّاً فيما بين الأذان والإقامة ألفي مرة، حتى إذا كان يوم الجمعة لعنتهُ أربعة آلاف مرة. فخرجت من المسجد فاتكأت على هذا الدكَّان، فذهب بي النوم فرأيت كأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أقبل وعليٌّ عن يمينه والحسن عن يساره وأصحابه خلفه والحسين بين يديه معه كأسٌ وإبريقٌ، فإذا النبي عليه السلام يقول: ياحسين، اسقني! فسقاه، ثمّ قال: ياحسين، اسقِ عليَّا! فسقاه، ثم قال: اسق الجماعة! فسقاهم، ثمّ قال: اسق المتكئ على الدكَّان! فقال له الحسين: ياجداه! أتأمرني أن أسقيه وهو يلعن والدي منذ أربعين سنة فيما بين الأذان والإقامة ألفي مرة وقد لعن اليوم أربعة آلاف؟! قال: فرأيت النبيّ عليه السلام عقد بيده ثلاثاً وهو يقول: أتلعن عليَّاً وعليٌّ مني؟! عليك لعنة الله! ورأيته قائماً فركلني برجله وتفل في وجهي وقال: قُمْ، غيَّر الله مابك من نعمة! - فانتبهت من منامي ورأسي ويدي كما ترى.
قال: وقال أبو جعفر: هذا الحديثان، ياسليمان، كانا عندك؟ قلت: لا، ياأمير المؤمنين. قال: ثمّ قلت: ياأمير المؤمنين، الأمان! قال: لك الأمان! قلتُ: ماتقول فيمن قتل اولادهم؟ قال: في النار، ويلك ياسليمان، الملك عقيمٌ، اخرج فحدّث الناس بما شئت! فخرجتُ من عنده.
مات الأعمش سنة ثمان وأربعين ومائة وعمره سبعٌ وثمانون سنة، وافقه هشام بن عروة في السنة ولادةً ووفتةً، ووافقهما عمر بن عبد العزيز في سنة الولادة وهي سنة احدى وستيَّن، ووافق الأولين في سنة الوفاة وفاة جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى.
آخر الجزء الثالث من نور القبس في أخبار النحاة والحمد لله رب العالمين
٦٣ - ومن أخبار ابن السائب الكَلْبيّ
قال هشام بن محمد: كان أبي أبو النضر محمد بن السائب بن بشر بن عمرو بن الحارث بن عبد العُزَّى بن امرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبد وُدّ بن كنانة بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن كلب. وكان جده بشر بن عمرو وبنوه السائب وعبيد وعبد الرحمان شهدوا الجمل وصفين مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقتل السائب بن بشر مع مصعب بن الزبير.