للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال يونس: اشتهي أن أعاتب في الجنة ثلاثة: آدم عليه السلام فأقول: أبي رضي الله عنك، أدخلك الله الجنة وأباحها لك كلها إلا شجرة واحدة، فأكلتها وأشقيتنا وأخرجتنا من الجنة! ويوسف عليه السلام فأقول: رضي الله عنك، تركت أباك وبينك وبينه مسيرة كذا وكذا، فتركته كذا وكذا من الدهر لم تكتب إليه كتاباً ولم ترسل إليه رسولاً حتى ذهب بصره من الحزن! وطلحة والزبير فأقول: رضي الله عنكما، بايعتما علياً بالحجاز ثم خلعتماه وجئتما تقاتلانه من غير حدث أحدث.

سأل رجلُ عن بني المحبل: من هم من العرب؟ فلم يعرف ذلك أحد، فلم يترك بالحجاز والشأم والكوفة أحداً إلا سأله. فأتى البصرة فلم يعرفهم أحد، فقيل له: إيت يونس بن حبيب! فأتاه فسأله، فضحك فقال: هؤلاء قوم من كندة عرفوا بأبيهم، وكان من قضيته أنه قال " من الوافر ":

أكرم جارتي وأصون عرضي ... وأفرغ في مزادتها سقائي

فأتركها وإن كانت عقيما ... كناز البطن من مذخور مائي

فقيل له: المحبل وتجنب الناس جواره.

ومن حكمه ومستحسن ألفاظه، كان يقول: إنما سمي الشاعر شاعرا لأنه يشعر من تأليف الكلام ونظمه ما لايشعر له غيره؛ الحمية طابع الصحة؛ الكبر وكل عيب، العزل وكلّ ذنب، الولاية وكل مدح، الشباب وكل صحة، اليسار وكل فضيلة، الفقر وكل لؤم؛ أعلم الناس بالزمان من لم يتعجب من أحداثه؛ ليس لمعجب رأي ولا لمتكبر صديق. - وكان يشرب الصبر كثيرا، فقيل له في ذلك، فقال: إنه يصفي البشرة ويذهب بالبثور وينقي الأعصاب. - وكان يقول: حسن الوجه يجذب أعنة الأبصار؛ ويقول: ليس لناقص البيان بهاء ولو حك بأنفه عنان السماء.

وسمع يونس رجلاً ينشد " من البسيط ":

استودع العلم قرطاساً فضيعه ... وبئس مستودع العلم القراطيس

فقال: قاتله الله ماأشد صبابته بالعلم وأحسن صيانته للعلم، ثم قال: مالك من بدنك وحفظك من روحك: فحفظ علمك حفظ روحك وحفظ مالك حفظ بدنك. وأخذ محمد بن بشير هذا المعنى فقال " من المنسرح ":

قل لبغاة الآداب: ماوقعت ... منها إليكم فلا تضيعونها

وضمنوا علمها الدفاتر ... والحبر بحسن الكتاب أوعوها

وإن دعتكم إلى القراطيس ... والأنقاس نفس فلا تطيعوها

وقال يونس: اختلفنا في أن الشعر ينقض الوضوء أم لا، فرأيت محمد ابن سبرين قد دخل المسجد، فبعث إليه رجلا فسأله، فأنشأ يقول " من الطويل ":

ألا تلكم عرس الفرزدق ناشزا ... ولو رضيت رمح استه لاستقرت

ثم استقبل القبلة فقال: الله أكبر.

استأذن أبو سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن لرجال قبله ثم أذن له، فقال: يارسول الله، كدت تأذن لحجارة الجهلتين قبلي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما مثلك في ذلك، ياأبا سفيان، ما قال الأول: كل الصيد في جوف الفرلء. - قال خلاد: فحدثت يونس، فقال: والله لقد جود له رسول الله صلى الله عليه وسلم! أتدري ماهذا؟ خرج رجال فتصيدوا، فاصطاد رجل منهم حمار وحش، واصطاد الآخرون من بين ظبي وأرنب، فاجتمعت نساؤهم، فجعلت المرأة تقول: اصطاد زوجي كذا، فيقول صاحب الحمار: كل الصيد في جوف الفراء.

وسئل يونس عن قوله تعالى: (فاليوم ننجيك ببدنك) وقد أغرق الله فرعون ولم ينجه، فقال: يعني نلقيك بنجوة البحر، وهي شاطئه وكذلك نجوة الوادي شفير الوادي، وتمثل بقول الشاعر " من البسيط ":

دان مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يمسكه من قام بالراح

فمن بنجوته كمن بعقوته ... والمستكن كمن يمشي بقرواح

يقول: المستكن كمن يمشي بالفضاء.

قال أبو حنيفة ليونس: ياأبا عبد الرحمان، علمت أن الزمان ليس من الفاكهة؟ قال: لم؟ قال: لقول الله عز وجل: (فيهما فاكهة ونخل ورمان) . فقال يونس: فجبريل وميكائيل إذا ليسا من الملائكة لقوله تعالى: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل) . قال: فكيف ذاك؟ قال: إن الله عز وجل إذا خص الشيء بالفضل أدخله في الجملة ثم أبانه بالاستثناء وأفرد ذكره.

وقال يونس: من أمثال العرب: المرء يعجز لا المحالة، يريد أن العجز يأتي من قبله. فأما الحيلة فواسعة غير ضيقة، وأنشد " من الكامل ":

أعصيت أمر ذوي النهى ... وأطعت أمر ذوي الجهاله

<<  <   >  >>