ورحل عنه، فوّجه إليه بألف دينار، فردّها وقال: هيهات، أفلتت قائبة من قوبها! وقال: أبلغ سليمان الأبيات. - وأنشد أبو هفّان للخليل " من البسيط ":
وزلةٍ يكثر الشيطان إن ذكرت ... منها التعجب جاءت من سليمانا
لاتعجبن لخير زلَّ عن يده ... فالكواكب النحس يسقى الأرض أحيانا
وقيل: كان الخليل صديق سليمان بن حبيب، وكثر الزوار، فتشاغل عنهم، فسألوا الخليل يذكره بأمرهم، فكتب إليه " من الكامل ":
لاتقبلن الشعر ثم تعقه ... وتنام والشعراء غير نيام
واعلم بأنهم إذا لم ينصفوا ... حكموا لأنفسهم على الحكام
وجناية الجاني عليهم تنقضي ... وعتابهم يبقى على الأيام
لما دخل الخليل البصرة عزم على مناظرة أبي عمرو بن العلاء، فجلس في حلقته، ثم انصرف ولم ينطق. فقيل له: ماحملك على السكوت عن مناظرته؟ قال: نظرت فإذا هو رئيس منذ خمسين سنة، فخفت أن ينقطع فيفتضح في البلد، فلم أكلمه.
وقيل: أراد بعض آل المهلب أن يشتري أرضاً، فأشير عليه أن لايشتريها. وأشار عليه الخليل بشرائها، ففعل فرأى مايحب، فقال الخليل يصفها " من البسيط ":
ترفعت عن ندى الأعماق وانخفضت ... عن المعاطش واستغنت بسقياها
فاعتم بالطلح والزيتون أسفلها ... وماد بالنخل والرمان أعلاها
وصار يحسده من كان يعذله ... ولائم لام فيها قد تمناها
أبا معاوية اشكر فضل واهبها ... وكلما جثتها فاعمر مصلاها
وعن الخليل أنه قال: كلم ابن عباس عبد الله بن الزبير في محمد بن الحنفية وقال: ماتريد من رجل كفّ لسانه ويده عنك؟ اتق الله! فإنك قادم على ربك. فقال له ابن الزبير: تكلمني في رجل سخيف الرأي ضعيف العقل، ليس له بذم ولادين. فقال ابن عباس: رماه الله بداءٍ لاشفاء له إن كان شرا منك في الدين والدنيا! فغضب ابن الزبير وقال: أنت أيضاً تتكلم عندي؟! فقام ابن عباس، وندم ابن الزبير على ماقال، وخرج من عند ابن الزبير من وجهه إلى الطائف وقال: العجب من حنكيل يتعجب من كلامي عنده، وقد تكلمت غلاماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، يرونني أحق من نطق، يستمع قولي وتقبل مشورتي، ليحك حنكيل جربه، ولاينقاص عليَّ انقياص الكثيب! أظن ابن الزبير أني مساعده على بني عبد المطلب؟! والله لأنملة من أنامل ابن الحنفية أحب إليَّ من أبن الزبير! والله غنه لأوفر منه عقلاً وأوفى منه عهداً وأكمل منه رأياً وأفضل ديناً وأصدق ورعاً! - فمات ابن عباس بالطائف، وصلى عليه ابن الحنفية، كبر عليه أربعاً وضرب عليه قسطاطاً وقال: دفنتم اليوم خير هذه الأمة. - قال ابن دريد: رجل بذم: إذا كان ذا قوة، وحنيكل تصغير حنكل: وهو الصغير المجتمع الخلق، وينقاص: يتهدم، وانقاصت سنه: إذا انكسرت، وأنشد " من الطويل ":
فراق كقيص السن فالصبر إنه ... لكل أناسٍ عبرةٌ وحبور
قال الخليل: مرَّ بنا الفرزدق ونحن صبيان نلعب، وقد انصرف من المهالبة وهو على بغل، وكان قبيح الوجه، فجعلنا ننظر إليه، فوقف وقال " من الكامل ":
نظروا إليك بأعين محمرة ... نظر التيوس إلى مدى القصاب
فقال له بعضنا: نظرنا إليك أنك مليح، كما ينظر إلى القرد وهو مليح، فصرف وجه بغلته وانصرف. - قال أبو العيناء: الخليل قال له هذه المقالة وهو صبي، ولكنه لم يحب أن تحكيه عن نفسه.
ويروى أن سيار بن هاني أبا إبراهيم بن سيار النظام جاء بابنه إبراهيم إلى الخليل، وقال: أحب أن يكون هذا الصبي بين يديك! فقال الخليل لإبراهيم كالعابث وفي دار الخليل نخلة: صف لي هذه النخلة! قال: بمدح أم بذم. قال: بذم! قال: هي صعبة المرتقى خبيثة المجتنى. قال: فصف زجاجتي هذه! - يعني كأساً في يده. فقال: أبمدح أم بذم؟ قال: بذم! قال: هي سريعة الانكسار بطيئة الانجبار. فقال الخليل لأبيه: أنا أحتاج أن أتعلم من أبنك هذا.
ومن شعر الخليل " من السريع ":
ما أسمج النسك بسأ ال ... وأقبح البخل بذي المال
وأقبح الثروة ما لم تكن ... عند أخي جودٍ وإفضال