مضت مائة لعام ولدت فيه ... وعشر بعد ذاك وحجتان
وقد أبقت صروف الدهر مني ... كما أبقت من السيف اليماني
فقال الأصمعي: يقولها النابغة الجعدي. فقال له: أتعرف من أرخ سنه في شعره غيره؟ فجعل الأصمعي ينشد أشعار من أرخوا سنهم في أشعارهم، فحفظت من ذلك أنه كان عميرة الكعبي الخزاعي يخط لكلّ من مات من أهله قبراً ويسوق عن كلّ من تزوج منهم مهراً وهو القائل " من الطويل ":
فنيت وأفناني الزمان وأصبحت ... هنيدةُ قد أنضيت من بعدها عشرا
وقد كنتُ مما أهزم الجيش واحدا ... وأعطي فلا منا عطائي ولا نزرا
وقد عشت دهراً ما يكون عشيرتي ... لها ميتٌ حتى أُخط له قبرا
فأصبحت مثل الفرخ لا أنا ميتٌ ... فأسلي ولا حيُّ فأصدر لي أمرا
وقال إسحاق بن إبراهيم: ما ولدت النساء مثل الأصمعي في حفظه وذكائه وفطنته، أنشدته يوماً قولي " من الطويل ":
إذا كانت الأحرار أصلي ومنصبي ... ودافع ضيمي خازم وابن خازم
عطست بأنف شامخ وتناولت ... يداي الثريا قاعداً غير قائم
فأنشدني لبشار " من المتقارب ":
ألا أيها السائل جاهلا ... ليعرفني أنا أنف الكرم
نمت في الكرام بني عامر ... فروعي وأصلي قريش العجم
وقال: إذا كانت في العالم خصال أربع وفي المتعلم خصال أربع اتفق أمرهما وتم، وإن نقصت من واحد منهما خصلة منها لم يتم أمرهما. فأما اللواتي في العالم: فالعقل والصبر والرفق والبذل، وأما اللواتي في المتعلم: فالعقل والحرص والفراغ والحفظ، لأن العالم إذا لم يحسن تدبير المتعلم بعقله خلط عليه أمره، وإن لم يبذل له علمه لم ينتفع به. وأما المتعلم فإنه إن لم يكن له عقل لم يفهم، وإن لم يكن له حرص لم يتعلم، وإن لم يفرغ قلبه للعلم لم يعقل عن معلمه، وإذا ساء حفظه كان ما يكون منهما مثل الكتاب على الماء. - وقال: إذا أردت أن تعرف عقل الرجل في مجلس واحد فحدّث في خلال حديثك بما لايكون، فإن رأيته قد أصغى إليه فأعلم أنه أحمق وإن أنكره فهو عاقل.
وقال الأصمعي: تضرعت في الأسباب على باب الرشيد مؤملا الظفر به والوصول إليه حتى أني صرت لبعض حرسه خدينا، فإني لفي ليلة قد نثرت السعادة والتوفيق فيها الأرق بين أجفان الرشيد، إذ خرج خادم فقال: أبالحضرة أحدٌ يحسن الشعر؟ فقلت: الله أكبر، ربَّ قيدٍ مضيق حلَّه التيسير! فقال لي الخادم: ادخل! فلعلها أن تكون ليلة تعرس في صباحها بالغنى إن فزت بالحظوة عند أمير المؤمنين. فدخلت فواجهت الرشيد في بهوه والفضل ابن يحيى إلى جانبه، فوقف بي الخادم بحيث يسمع التسليم، فسلمت، فردّ السلام ثمّ قال: ياغلام، أرحه قليلاً، يفرخ روعه إن كان وجد للروع في نفسه حساً! فقلت في نفسي: فرصةٌ يفتك بها الدهر بإدخال شغل على قلبه كرمك، مجيران لمن نظر إليك من أعتراض أذيةٍ! فقال: ادن! فدنوت، محسنا. فقال: تالله ما رأيت أدعى منك! فقلت: أنا على الميدان، فأطلق من عناني، ياأمير المؤمنين! فقال: أنصف القارة من راماها! ثمّ قال: ما المعنى في هذه الكلمة بدياً؟ قلت: فيها قولان، القارة هي الحرة من الأرض، وزعمت الرواة أن القارة كانت رماة للتبابعة، والملك إذ ذاك أبو سهمه في كبد قوسه، فقال: أين رماة العرب؟ فقالت العرب: أنصف القارة من راماها. فقال لي الرشيد: أصبت! ثم قال: أتروي لرؤبة والعجاج شيئاً؟ فقلت: هما مشاهدان لك بالقوافي وإن غُيباً عن بصرك بالأشخاص. فأخرج من بيد فرشه رقعة، ثمّ قال: أنشدني " من الرجز ":
أرقني طارقُ همٍ أرقا
فمضيت فيها مضيَّ الجواد في سنن ميدانه تهدر بي أشداقي، فلما صرت إلى مديحه لبني أمية، ثنيت لساني إلى امتداحه للمنصور في قوله " من الرجز ":
قلتُ لزير لم تصله مريمه
- يقال: هو زير نساء وحدث نساء إذا كان يحب محادثتهن - فلما رآني قد عدلت عن أرجوزة إلى غيرها قال: أعن حيرة أم عن عمد تركت؟ قلت: عن عمد، تركتُ كذبه إلى صدقه فيما وصف به المنصور من مجده. فقال لي الفضل: أحسنت بارك الله عليك! مثلك يؤهل لمثل هذا المجلس! فلما أتيت على آخرها قال لي الرشيد: أتروي كلمة عديّ بن الرقاع " من الكامل ":
عرف الديار توهماً فاعتادها