للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَاعْلَم أَن هَهُنَا وَجْهَيْن متعارضين، وَذَلِكَ أَن الزِّنَا مَعْصِيّة كَبِيرَة يجب إخمالها وَإِقَامَة الْحَد عَلَيْهَا والمؤاخذة بهَا، وَكَذَلِكَ الْقَذْف مَعْصِيّة كَبِيرَة، وَفِيه إِلْحَاق عَار عَظِيم يجب إِقَامَة الْحَد عَلَيْهَا، وَيشْتَبه الْقَذْف بِالشَّهَادَةِ على الزِّنَا، فَلَو أَخذنَا الْقَاذِف لنقيم عَلَيْهِ الْحَد يَقُول: أَنا شَاهد على الزِّنَا، وَفِيه بطلَان لحد الْقَذْف وَالَّذِي هُوَ شَاهد على الزِّنَا يذبه عَن نَفسه الْمَشْهُود عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَاذف يسْتَحق الْحَد، فَلَمَّا تعَارض الحدان فِي هَذِه الْجُمْلَة عَن سياسة الْأمة وَجب أَن يفرق بَينهمَا بِأَمْر ظَاهر وَذَلِكَ كَثْرَة المخبرين، فَإِنَّهُم إِذا كَثُرُوا قوى ظن الشَّهَادَة والصدق، وَضعف ظن الْقَذْف، فان الْقَذْف يستدعى جمع صفتين: ضَعِيف فِي الدّين، وغل بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَقْذُوف، وَيبعد أَن يجتمعا فِي جمَاعَة من الْمُسلمين وَإِنَّمَا لم يكتف بعدالة الشَّاهِدين لِأَن الْعَدَالَة مَأْخُوذَة فِي جَمِيع الْحُقُوق، فَلَا يظْهر للتعارض أثر، وضبطت الْكَثْرَة بِضعْف نِصَاب الشَّهَادَة.

وَإِنَّمَا جعل حد الْقَذْف ثَمَانِينَ لِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَن يكون أقل من الزِّنَا، فان

إِشَاعَة فَاحِشَة لَيست بِمَنْزِلَة فعلهَا، وَضبط النُّقْصَان بِمِقْدَار ظَاهر وَهُوَ عشرُون، فَإِنَّهُ خمس الْمِائَة وَإِنَّمَا جعل من تَمام حَده عدم قبُول الشَّهَادَة لما ذكرنَا أَن الايلام قِسْمَانِ: جسماني. ونفساني. وَقد اعْتبر الشَّرْع جَمعهمَا فِي جَمِيع الْحُدُود لَكِن جمع مَعَ حد الزِّنَا التَّغْرِيب لِأَن الزِّنَا عِنْد سياسة وُلَاة الْأُمُور وَغَيره الأؤلياء لَا يتَصَوَّر إِلَّا بعد مُخَالطَة وممازجة وَطول صُحْبَة وائتلاف، فَجَزَاؤُهُ الْمُنَاسب لَهُ أَن يجلى عَن مَحل الْفِتْنَة، وَجمع مَعَ حد الْقَذْف عدم قبُول الشَّهَادَة، لِأَنَّهُ إِخْبَار، وَالشَّهَادَة إِخْبَار، فجوزي بِعَارٍ من جنس الْمعْصِيَة فان عدم قبُول الشَّهَادَة من الْقَاذِف عُقُوبَة، وَعدم قبُولهَا من سَائِر العصاة لفَوَات الْعَدَالَة وَالرِّضَا، وَأَيْضًا فقد ذكرنَا أَن الْقَاذِف لَا يعجز أَن يَقُول: أَنا شَاهد فَيكون سد هَذَا الْبَاب أَن يُعَاقب بِمثل مَا احْتج بِهِ، وَجمع فِي حد الْخمر التبكيت.

وَاخْتلفُوا فِي قَوْله تَعَالَى:

{إِلَّا الَّذين} .

هَل الِاسْتِثْنَاء رَاجع إِلَى عدم قبُول الشَّهَادَة أم لَا؟ وَالظَّاهِر مِمَّا مهدنا أَن الْفسق لما انْتهى وَجب أَن يَنْتَهِي أَثَره وعقوبته، وَقد اعْتَبرهُ الْخُلَفَاء لحد الزِّنَا فِي تنصيف الْعقُوبَة على الأرقاء.

قَالَ تَعَالَى:

{السَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا جَزَاء بِمَا كسبا نكالا من الله وَالله عَزِيز حَكِيم} .

اعْلَم أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث مُبينًا لما أنزل إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:

<<  <  ج: ص:  >  >>