ومن الأدلة: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُم الْمَيْتَةُ ... إلى قوله: فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فالأكل من الميتة أمر محرم مفضول وتركها أمرٌ واجب فاضل ولاشك في ذلك، لكن إذا اضطر الإنسان إلى أكلها لعدم وجود غيرها وخاف الهلاك على نفسه فإن الأمر المفضول سابقًا قبل الضرورة يتحول إلى أمرٍ فاضل لاقتران المصلحة الشرعية به وهي حفظ النفس، بل أوجب جمع من العلماء الأكل منها في هذه الحالة وهو الصحيح بلا ريب، بل نحن نجد في شريعتنا - ولله الحمد والمنة - أن بعض المحرمات تحل للضرورة كشرب الخمر لدفع غصةٍ ونحوه وذلك مراعاة للمصلحة الشرعية المترتبة على إباحة الحرام، وقد تقدم لنا قاعدة:(لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة) وهي قاعدة منبثقة من مراعاة المصالح والمفاسد.
ومن الأدلة أيضًا على هذا الأصل العظيم: ما رواه أصحاب السنن أن رجلاً سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول فلم يرد عليه السلام حتى فرغ ثم تيمم ثم رد عليه السلام، ومن المعلوم أن رد السلام أمر فاضل وتركه مفضول، لكن هذا المفضول في هذه الحالة أعني في حالة قضاء الحاجة تحول إلى فاضل لاقتران المصلحة به وهي تنزيه ذكر الله تعالى أن يقال في الخلاء والرد تحول من الفاضل إلى المفضول بسبب تخلف المصلحة ووجود المفسدة، ولذلك لم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه السلام إلا بعد أن فرغ وتيمم وقال:(إني كرهت أن أذكر الله إلا وأنا على طهارة) وفي آخر قال: (فإذا رأيتني على هذه الحالة فلا تسلم علي فإنك إن سلمت علي لن أرد عليك)(١) .
(١) لكن التعليل في الحديث في لفظه الأول الصحيح: هو كراهته ذكر الله إلا على طهارة لا كونه في الخلاء.