إذاً: كل شيء تيقنا ثبوته في الماضي فهو ثابت في الحاضر إلا إذا جاء يقين بخلافه، وكل شيء تيقنا زواله في الماضي فهو زائل الآن إلا إذا جاء ما يغير الحال الماضية، ومن ادعى خلاف الحال الماضية فعليه الدليل لأنه ناقل عن الأصل، والدليل يطلب من الناقل عن الأصل فمن قال لما كان منفيًا هو ثابت فعليه الدليل، ومن قال لما كان ثابتاً هو منفي فعليه الدليل، والله تعالى أعلى وأعلم.
القاعدة الثانية عشر
[١٢ - الأصل براءة الذمم إلا بدليل]
وهذه أيضًا من قواعد الأصول، وبيانها أن يقال: قوله (الأصل) قد مضى شرحه (براءة الذمم) أي السلامة من المطالبة (والذمم) جمع ذمة.
ومعنى هذه القاعدة أن الله جل وعلا لما خلق الذمم خلقها بريئة من المطالبة بأي حق سواءً من حقه الذي هو العبادة أو من حقوق الآدميين التي تجري بينهم، فذممهم سليمة من كل مطالبة، ثم أعمرها جل وعلا بما أعمرها به من الحقوق الواجبة له علينا، كحق توحيده وإفراده بالعبادة، وحق الصلوات الخمس، وبر الوالدين، والصوم، والزكاة ووجوب الحج وهكذا، فالأصل أننا لا نطالب بأي عبادة، إلا بالعبادات التي دل عليها الدليل الشرعي الصحيح، ويبقى ما لم يدل عليه الدليل على أصل البراءة من المطالبة منه فلا تعمر الذمة بشيءٍ إلا ببينة، وكذلك حقوق الآدميين التي بينهم الأصل أن ذممنا بريئة منها فلا أحد من المخلوقين يطالبها بشيء إلا بما ثبتت به البينة، فالذمة بريئة من كل حقٍ بيقين فلا تعمر بمجرد الدعاوى التي لا مستند لها ولا بالأحاديث الواهية الضعيفة التي لا تقوم حجتها، بل لابد من يقين آخر يزيل يقين براءتها وهو البينة والبرهان؛ لأن اليقين لا يزول إلا باليقين كما مضى.