[٣٦ - الاستثناء في المعاوضات لا تغتفر فيه الجهالة وفي التبرعات تغتفر]
اعلم - أرشدك الله لطاعته - أن العقود إما أن تكون عقود معاوضات وإما عقود تبرعات وعقود المعاوضات هي التي يكون العوض فيها من الطرفين أعني من المتعاقدين، كالبيع والإجارة والسلم ونحوه، وأما عقود التبرعات فهي التي يكون البذل فيها من أحدهما دون الآخر كالوقف والوصية والهبة، إذا علمت هذا فاعلم أن الإنسان يجوز له إذا باع عينًا أو منفعة أن يستثني منفعتها، لكن هذه الثنيا لابد أن تكون معلومة إذا كان العقد عقد معاوضة وتغتفر الجهالة فيها إذا كان العقد عقد تبرع على الراجح، والدليل على جواز الاستثناء أصلاً حديث جابر بن عبد الله في الصحيحين أنه كان يسير على جملٍ له أعيا فقال فأردت أن أسيبه فلحقني النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا لي وضربه فسار سيرًا لم يسر مثله قط، فقال:(بعنيه بوقية) . فقلت: لا. ثم قال:(بعنيه) ، فبعته بوقية واشترطت حملانه إلى أهلي فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه، فرجعت ثم أرسل في أثري فقال:(أتراني ماكستك لآخذ جملك خذ جملك ودراهمك فهو لك) وهذا لفظ مسلم فجابر - رضي الله عنه - لما باع الجمل للنبي - صلى الله عليه وسلم - استثنى منفعة ركوبه إلى أهله، وهذا هو الاستثناء والعقد هنا عقد معاوضة؛ لأن العوض من الطرفين فجابر يسلم الجمل والنبي - صلى الله عليه وسلم - يدفع الثمن، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا الاستثناء مما يدل على جوازه، إذ لو كان الاستثناء في المبيع ممنوعًا لأنكره فلما لم ينكره دَلَّ على جوازه، وأما اشتراط العلم بالمدة المستثناه فيدل عليه هذا الحديث:(فإن جابر قال: واشترطت حملانه إلى أهلي) أي هذه المسافة المعلومة فقط، ويدل عليه أيضًا حديث جابر عند مسلم وغيره قال:(نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الثنيا إلا أن تعلم) فهذه دليل النقل.