قوله:(على من أنكر) أي على المدعي عليه، وهو الذي يحاول أن يدفع صدق الدعوى عن نفسه فهو ينكر هذه الدعوى فلذلك سمي منكرًا إذا علمت هذا فاعلم أن البينة التي هي الحجة والبرهان لا تطلب إلا من الناقل عن الأصل لا من الثابت عليه، فالمدعي يدعي بأن له حقًا على زيدٍ من الناس مثلاً فهو يريد أن يثبت هذا الحق في ذمة زيد، فهو مخالف للأصل فطولب بالبينة التي تثبت صدق دعواه، وأما المنكر فهو يبرئ ذمته من هذا الحق فهو مع الأصل فلا يطالب في هذه الحالة بشيء إلا أنه في مجلس القضاء يحتاج إلى بينة ضعيفة يأتي بها وهو اليمين حتى يتأكد القاضي من براءة ذمته. فإن قلت: لماذا جعلت الشريعة البينة في جانب المدعي، واليمين في جانب المدعى عليه؟ قلنا: إن جانب المدعي ضعيف جدًا؛ لأنه يخالف الأصل الذي هو براءة الذمة، وكل من خالف الأصل فجانبه ضعيف فيحتاج إلى شيء يقويه والبينة المثبتة لحقه هي التي تقوي ضعفه فطلبت منه البينة، وأما جانب المدعى عليه فهو قوي جدًا؛ لأنه يمشي مع الأصل ولم يخالفه وكل من كان الأصل معه فجانبه قوي فطلب منه بينة ضعيفة وهي اليمين؛ لأنه لا حاجة لتقوية جانبه لذلك القاعدة عندنا تقول:(اليمين في جانب أقوى المتداعيين) وأقوى المتداعيين هنا هو المدعى عليه؛ لأن الأصل معه فشرعت اليمين في جانبه (١) ، والله أعلم.
(١) لابن القيم كلام جميل يرى فيه أن اليمين مشروعة في حق أقوى المتداعيين، ولذا حكم الرسول صلى الله عليه وسلم بالشاهد ويمين المدعي لقوة جنابه بالشاهد الواحد، وفي القسامة جعلت الأيمان في جانب المدعين لوجود قرينة اللوث معهم فراجع كلامه رحمه الله.