يطمئن قلبه بالمعاينة بعد الإيمان، ولا جرم أن إيماننا أقل من إيمان الأنبياء؛ فنحن أَوْلَى بطلب المعاينة، وطريق الخليل فيها مقفل بابها علينا. فمن فضله تعالى ذكر هنا أن القتيل قد حيي بضربه ببعض البقرة، وهذا فتح باب لإحضار الأرواح؛ فكأنه يقول في مسألة إبراهيم: اطلبوا الحقائق لتطمئنوا، وهنا يقول: اسلكوا السبل التي بها تستحرونها، ولا تنالون شيئًا من هذا إلا بجدكم وكدكم، فالعلم لا يُنال إلا بالمشقة والنَّصَب، فإذا وجدتم أن طريق موسى في إحياء الموتى يصعب عليكم فالتسموا غيره" {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} "هذا ما بدا لي في هاتين الآيتين للخليل وموسى الذي سار على قدم جده في النبوة، فحيي الميت على يديه، وفي السورة آيتان أخريان في إحياء الموتى؛ وهما:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} ، والآية الأخرى نزلت في العزير؛ إذ قال في بيت المقدس:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} ، ثم نظر الطعام الذي كان معه والشراب فرآهما على حالهما لم يتغيرا، وصار ينظر إلى حماره وهو يحيا وتتصل العظام ببعضها وتُكسى لحمًا؛ فعلم {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} .
فالمسلم إذا قرأ هذه الآيات التي حكيت عن بني إسرائيل يقول في نفسه: أنا آمنت، فإن كان من العامة لم يطلب المزيد، وإن كان من الخاصة قال: أنا أطلب المعاينة والمشاهدة، والمشاهدة بإحدى طريقتين:
الطريقة الأولى: ما سلكه المجاهدون الزاهدون؛ ولكنها محفوفة بالخطر، ومَن شاهد منهم شيئًا لا يمكن لغيره التصديق به.
الطريقة الثانية: طريقة استحضار الأرواح، وهي عامة كما تقدم في هذا المقام؛ ولكن استحضار الأرواح أيضًا على ما يقولون صعب المنال، ويقولون: إن الأرواح النقية لا تخاطب إلا قلوبًا نقية خالصة؛ فرجع الأمر عند الصوفية وعند علماء العصر الحاضر من أوربا إلى أن المدار على الإخلاص والصدق، وطلب الحقيقة والتوجه لله، فهذا هو الأصل عند الجميع.
ولذلك ترى الذين يظنون أنهم استحضروا الأرواح متى غلب علهيم حب الدنيا تحضر إليهم أرواح كاذبة خاطئة على مقدار هممهم، وتكلمهم بالأكاذيب والمواعيد