أتم الحيوان ذلك صنع سردابًا آخر فوقه على هذا المنوال، وهكذا يضع جملة أدوار، فانظر كيف شملت الرحمة ما خلق وما لم يخلق، فإن ذلك الطعام المخزون في السرداب رحمة ألهمها ذلك الحيوان من الحشرات لولده الذي سيخلق.
"ومن هذه العجائب" ما شاهده العلماء الباحثون في أمر النحل والنمل والعنكبوت: "فأما النحل" فتعجب كيف جعل الرحمن الرحيم له سبلًا مذللة، فإنه متى فتح زهرة أول النهار ليمتص رحيقها المختوم ويرجع به إلى الخلية فيضعه فيها، يلهم ألا يفتح زهرة في ذلك اليوم، إلا ما كان من جنس تلك الزهرة لرحمة النحل ورحمة الناس، أما رحمة النحل: فإنه لا يعوزه أن يحتال في فتح زهرات أخرى من نوع آخر فيطول عناؤه، وأما رحمة الناس: فإن ما يعلق برجلي النحلة من حبوب طلع الذكور من النبات، إذا وصل إلى زهرة أنثى علق بها من ذلك الطلع بعضه؛ فأثمر ذلك النبات لحصول الإلقاح بهذه الرحمة العجيبة.
"وأما النمل" فمن عجائب الرحمة الخاصة به أن الله خلق له حشرة تسمى "إفس" باللسان الإفرنجي، يحاربها النمل ويغلبها، ومتى غلبها أخذ يستولدها ويربيها ويسميها في ورق الورد، ومتى أكلت وشبعت أقبل النمل عليها وامتص منها مادة حُلوة؛ فكأنه بقر له بشرب لبنه.
"وأما العنكبوت" فإنها ألهمت النسج البديع بهندسة فاقت هندسة الإنسان، وعلل ذلك العلماء بقولهم: إن هندسته إلهية وهندسة الإنسان بتعليم البشر؛ فلذلك يغلط الإنسان، ولا يغلط العنكبوت في الهندسة. ولما كان بيت العنكبوت أضعف بيت ألهمها الله أن تبحث عن صمغ وغراء من أماكنها وأشجارها، وتلطخ بها خيوطها التي نسجتها؛ فتكسبها لزوجة؛ فلذلك لا تمزقها الرياح إذا فاجأتها، ولا الأعاصير إذا ساورتها، وإذا مر بها الذباب التقطته بمادتها اللزجة.
فانظر إلى آثار رحمة الله كيف كانت المادة الصمغية صائنة بيت العنكبوت الضعيف من التمزيق إذا هبت الزعازع واهتاجت الأعاصير، مع أنها قد تقتلع