للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكدت أجد تأويلًا لهذه النصوص بأنهما لا ينكران الحادثة؛ وإنما أثبتا أنه الحكم الشرعي عند بني إسرائيل، ولعله من بقايا تلك القصة أو الحادثة. كدت ألتمس لهما هذا لولا أن الأستاذ رشيد طبق الحكم المزعوم على الآية نفسها، فأخرجها من كونها السبب في الحكم إلى كونها الحكم نفسه؛ حيث قال: "ومعنى إحياء الموتى على هذا حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تسفك؛ بسبب الخلاف في قتل تلك النفس؛ أي يحييها بمثل هذه الأحكام" إلى أن قال: " {وَيُرِيكُمْ آيَاتِه} بما يفصل بها في الخصومات، ويزيل من أسباب الفتن والعداوات، فهو كقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} ١، وأكثر ما يستعمل مثل هذا التعبير في آيات الله في خَلْقه الدالة على صدق رسله"٢.

ومن هذا يظهر أنهما يقولان بأن الآيات مسوقة لبيان حكم شرعي، لا لبيان حادث تاريخي؛ هو معجزة لموسى -عليه السلام- وقد رد عليهما ردًّا حميدًا في هذا المقام الشيخ محمود شلتوت -رحمه الله تعالى- حيث قال: "إن كلمة {اضْرِبُوه} واضحة في أن يُضرب المقتول ببعض البقرة المذبوحة، وليس في الكلام إشارة تتعلق بالقاتل الخفي، ولا إشارة إلى غسل أيدي أهل الحي من دماء البقرة، وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} يدل على أن الإحياء المشبه به -وهو الإحياء في هذا المقام- إحياء حقيقي بعد موت تسلب فيه الروح، وليس إحياءً حكميًّا يحصل بمعرفة القاتل والاقتصاص منه حتى يكون بمثابة {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} كما يريد الشيخان، ولو كان الأمر كما يقرران لما صح تقرير إحياء الموتى للبعث والجزاء بهذا النوع من الإحياء الحكمي المجازي، ولو أن قائلًا قال: إن الله يحيي النفوس الجاهلة بالعلم، وكذلك يحيي الموتى من قبورهم؛ لَمَا كان مثل هذا التشبه والقياس سائغًا، وإن قوله تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِه} لواضح في الإراءة البصرية للآيات الكونية، لا في الإراءة العقلية للأحكام الشريعة؛ حتى


١ سورة النساء: من الآية ١٠٥.
٢ تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج١ ص٣٥١.

<<  <  ج: ص:  >  >>