للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فمن احترز من أمر من الأمور بسبب غيره، يقال: إنّه يراقب فلانًا، ويراعي جانبه، ويعني بهذه المراقبة حالة للقلب يثمرها نوع من المعرفة، وتثمر تلك الحالة أعمالاً في الجوارح وفي القلب. أمّا الحالة فهي مراعاة القلب للرّقيب واشتغاله به والتفاته إليه، وملاحظته إيّاه وانصرافه إليه. وأمّا المعرفة الّتي تثمر هذه الحالة فهي العلم بأنّ اللّه مطّلع على الضّمائر، عالم بالسّرائر، رقيب على أعمال العباد، قائم على كلّ نفس بما كسبت، وأنّ سرّ القلب في حقّه مكشوف كما أنّ ظاهر البشرة للخلق مكشوف بل أشدّ من ذلك. فهذه المعرفة إذا صارت يقينا- أعني أنّها خلت عن الشّكّ- ثمّ استولت بعد ذلك على القلب قهرته؛ فربّ علم لا شكّ فيه لا يغلب على القلب كالعلم بالموت، فإذا استولت على القلب استجرّت القلب إلى مراعاة جانب الرّقيب وصرفت همّه إليه؛ والموقنون بهذه المعرفة هم المقرّبون، وهم ينقسمون إلى الصّدّيقين وإلى أصحاب اليمين" (١).

وقال ابن قدامة: " وينبغي أن يراقب الإنسان نفسه قبل العمل وفى العمل، هل حركه عليه هوى النفس أو المحرك له هو الله تعالى خاصة؟ فإن كان الله تعالى، أمضاه وإلا تركه، وهذا هو الإخلاص، قال الحسن: رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر، فهذه مراقبة العبد في الطاعة، وهو أن يكون مخلصاً فيها. ومراقبته في المعصية تكون بالتوبة والندم والإقلاع، ومراقبته في المباح تكون بمراعاة الأدب، والشكر على النعم؛ فإنه لا يخلو من نعمة لابد له من الشكر عليها، ولا يخلو من بلية لابد من الصبر عليها، وكل ذلك من المراقبة" (٢).

" وقال ابن المبارك لرجل: راقب الله تعالى، فسأله عن تفسيره، فقال: كن أبداً كأنك ترى الله عز وجل" (٣). وهذا مأخوذ من قوله عليه الصلاة والسلام لجبريل عندما سأله


(١) إحياء علوم الدين، للغزالي (٤/ ٣٩٨).
(٢) مختصر منهاج القاصدين، للمقدسي (٤/ ١٤٢).
(٣) إحياء علوم الدين، للغزالي (٤/ ٣٩٧).

<<  <   >  >>