للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كان أكثر دعائه: (يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)، قالت: قلت: يا رسول الله، ما أكثر دعاءك: يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك؟! قال: (يا أم سلمة، إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ) (١).

فلما كان القلب بهذه المكانة العليا، وهذا المحل الرفيع، تعيّن على العبد العناية به والحرص على إصلاحه وحياته، والحذر من فساده وتسلط الأمراض عليه.

قال ابن القيم: "ولما كان القلب لهذه الأعضاء كالملك المتصرف في الجنود الذي تصدر كلها عن أمره-، ويستعملها فيما شاء، فكلها تحت عبوديته وقهره، وتكتسب منه الاستقامة والزيغ، وتتبعه فيما يعقده من العزم أو يحله … فهو ملكها وهي المنفذة لما يأمرها به، القابلة لما يأتيها من هديته، ولا يستقيم لها شيء من أعمالها حتى تصدر عن قصده ونيته، وهو المسئول عنها كلها؛ لأن كل راع مسئول عن رعيته-؛ كان الاهتمام بتصحيحه وتسديده أولى ما اعتمد عليه السالكون، والنظر في أمراضه وعلاجها أهم ما تنسك به الناسكون، ولما علم عدو الله إبليس أن المدار على القلب والاعتماد عليه أجلب عليه بالوساوس، وأقبل بوجوه الشهوات إليه، وزين له من الأحوال والأعمال ما يصده به عن الطريق، وأمده من أسباب الغي بما يقطعه عن أسباب التوفيق، ونصب له من المصايد والحبائل ما إن سلم من الوقوع فيها لم يسلم من أن يحصل له بها التعويق، فلا نجاة من مصايده ومكايده إلا بدوام الاستعانة بالله تعالى، والتعرض لأسباب مرضاته، والتجاء القلب إليه، وإقباله عليه في حركاته وسكناته، والتحقق بذلِّ العبودية الذي هو أولى ما تلبس به الإنسان؛ ليحصل له الدخول ضمان: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: ٤٢] " (٢).


(١) رواه الترمذي (٥/ ٥٣٨)، وهو صحيح.
(٢) إغاثة اللهفان، لابن القيم (١/ ٥).

<<  <   >  >>