للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

صلى الله عليه وسلم: (قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به) (١).

قال ابن قدمة: " اعلم أنّ في الصّوم خصيصة ليست في غيره، وهي إضافته إلى اللّه- عزّ وجلّ- حيث يقول سبحانه في الحديث القدسيّ: (الصّوم لي وأنا أجزي به). وكفى بهذه الإضافة شرفًا كما شرّف البيت بإضافته إليه في قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج: ٢٦] وإنّما فضّل الصّوم لمعنيين:

أحدهما: أنّه سرّ وعمل باطن، لا يراه الخلق ولا يدخله رياء.

الثّاني: أنّه قهر لعدوّ اللّه؛ لأنّ وسيلة العدوّ الشّهواتُ، وإنّما تقوى الشّهوات بالأكل والشّرب وما دامت أرض الشّهوات مخصبة، فالشّياطين يتردّدون إلى ذلك المرعى، وبترك الشّهوات تضيق عليهم المسالك " (٢).

وقال ابن القيم: " لما كان المقصود من الصيام حبسَ النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية؛ لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حِدتها وسَورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحه، وتلجم بلجامه؛ فهو لجام المتقين، وجُنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال؛ فإن الصائم لا يفعل شيئًا وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها؛ إيثاراً لمحبة الله ومرضاته، وهو سر بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه، والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما


(١) رواه البخاري (٢/ ٦٧٣)، ومسلم (٢/ ٨٠٦).
(٢) مختصر منهاج القاصدين للمقدسي (١/ ٣٥).

<<  <   >  >>