للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال ابن القيم: "وللصّوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظّاهرة، والقوى الباطنة، وحمايتها من التّخليط الجالب لها الموادّ الفاسدة الّتي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ الموادّ الرّديئة المانعة لها من صحّتها، فالصّوم يحفظ على القلب والجوارح صحّتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشّهوات، فهو من أكبر العون على التّقوى، كما قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: ١٨٣] " (١).

عاشراً: أنه وسيلة إلى قهر النفس وتربيتها على الأخلاق الحسنة من الإيثار والرحمة والصبر والانتصار على الشهوات. قال الماوردي: " ثم فرض الله تعالى الصيام وقدمه على زكاة الأموال؛ لتعلق الصيام بالأبدان، وكان في إيجابه حث على رحمة الفقراء وإطعامهم وسد جوعاتهم؛ لما عاينوه من شدة المجاعة في صومهم، وقد قيل ليوسف على نبينا وعليه السلام: أتجوع وأنت على خزائن الأرض؟! فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع! ثم لما في الصوم من قهر النفس وإذلالها وكسر الشهوة المستولية عليها وإشعار النفس ما هي عليه من الحاجة إلى يسير الطعام والشراب، والمحتاج إلى الشيء ذليل به، وبهذا احتج الله تعالى على من اتخذ عيسى على نبينا وعليه السلام وأمه إلهين من دونه، فقال: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة: ٧٥]. فجعل احتياجهما إلى الطعام نقصًا فيهما عن أن يكونا إلهين. وقد وصف الحسن البصري نقص الإنسان بالطعام والشراب فقال: مسكين ابن آدم محتوم الأجل، مكتوم الأمل، مستور العلل، يتكلم بلحم، وينظر بشحم، ويسمع بعظم، أسيرُ جوعه، صريعُ شبعه، تؤذيه البقّة، وتنتنه العَرقة وتقتله الشَّرقة، لا يملك لنفسه ضراً، ولا نفعًا ولا موتاً، ولا حياة، ولا نشوراً. فانظر إلى لطفه بنا، فيما أوجبه من الصيام علينا، كيف أيقظ العقول له، وقد كانت عنه غافلة أو متغافلة، ونفع النفوس به ولم تكن منتفعة ولا نافعة" (٢).


(١) زاد المعاد، لابن القيم (٢/ ٢٧).
(٢) أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: ١٠٦).

<<  <   >  >>