يقول ابن الجوزي عن نفسه وهمته، حاكيًا مع ذلك نماذجَ لبعض ذوي الهمم العالية ولكن في أمر الدنيا: " وما ابتلي الإنسان قط بأعظم من علو همته؛ فإن من علت همته يختار المعالي، وربما لا يساعده الزمان، وقد تضعف الآلة، فيبقى في عذاب، وإني أُعطيت من علو الهمة طرفاً؛ فأنا به في عذاب ولا أقول: ليته لم يكن؛ فإنه إنما يحلو العيش بقدر عدم العقل، والعاقل لا يختار زيادة اللذة بنقصان العقل، ولقد رأيت أقواماً يصفون علو هممهم، فتأملتها بها في فن واحد، ولا يبالون بالنقص فيما هو أهم، قال الرضي:
ولكل جسم في النحول بليةٌ … وبلاءُ جسمي من تفاوت همتي
فنظرت فإذا غاية أمله الإمارة، وكان أبو مسلم الخرساني في حال شبيبته لا يكاد ينام، فقيل له في ذلك! فقال: ذهن صاف، وهم بعيد، ونفس تتوق إلى معالي الأمور، مع عيش كعيش الهمج الرعاع. قيل: فما الذي يبرد غليلَك؟ قال: الظفر بالملك، قيل: فاطلبه، قال: لا يُطلب إلا بالأهوال، قيل: فاركب الأهوال، قال: العقل مانع، قيل: فما تصنع؟ قال: سأجعل من عقلي جهلاً، وأحاول به خدراً لا ينال إلا بالجهل، وأدبر بالعقل ما لا يحفظ إلا به؛ فإن الخمول أخو العدم. فنظرت إلى حال هذا المسكين فإذا هو قد ضيع أهم المهمات وهو جانب الآخرة، وانتصب في طلب الولايات، فكم فتكَ وقتل! حتى نال بعض مراده من لذات الدنيا، ثم لم يتنعم في ذلك غير ثمان سنين، ثم اغتيل، ونسي تدبير العقل، فقُتل ومضى إلى الآخرة على أقبح حال، وكان المتنبي يقول:
فتأملت هذا الآخر فإذا نهمته فيما يتعلق بالدنيا فحسب!. ونظرت إلى علو همتي فرأيتها عجباً؛ وذلك أنني أروم من العلم ما أتيقن أني لا أصل إليه؛ لأني أحب نيل كل العلوم على اختلاف فنونها، وأريد استقصاء كل فن، وهذا أمر يعجز العمر عن بعضه،