للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فإن عرض لي ذو همة في فن بلغ منتهاه رأيته ناقصاً في غيره، فلا أعد همته تامة؛ مثل المحدث فاته الفقه، والفقيه فاته علم الحديث، فلا أرضى بنقصان من العلوم إلا حادثاً عن نقص الهمة، ثم إني أروم نهاية العمل بالعلم، فأتوق إلى ورع بِشْر، وزهادة معروف، وهذا مع مطالعة التصانيف، وإفادة الخلق، ومعاشرتهم بعيد، ثم إني أروم الغنى عن الخلق، وأستشرف الإفضال عليهم، والاشتغالُ بالعلم مانع من الكسب، وقبولُ المنن مما تأباه الهمة العالية، ثم إني أتوق إلى طلب الأولاد كما أتوق إلى تحقيق التصانيف، ليبقى الخَلَفان نائبينِ عني بعد التلف، وفي طلب ذلك ما فيه من شغل القلب المحب للتفرد، ثم إني أروم الاستمتاع بالمستحسنات، وفي ذلك امتناع من جهة قلة المال ثم لو حصل فرق جمع الهمة، وكذلك أطلب لبدني ما يصلحه من المطاعم والمشارب؛ فإنه متعود للترفه واللطف، وفي قلة المال مانع، وكل ذلك جمع بين أضداد، فأين أنا وما وصفته من حال من كانت غاية همته الدنيا؟ وأنا لا أحب أن يخدش حصول شيء من الدنيا وجه ديني بسبب، ولا أن يؤثر في علمي ولا في عملي. فوا قلقي من طلب قيام الليل، وتحقيق الورع مع إعادة العلم، وشغل القلب بالتصانيف، وتحصيل ما يلائم البدن من المطاعم، ووا أسفي على ما يفوتني من المناجاة في الخلوة مع ملاقاة الناس وتعليمهم، ويا كدر الورع مع طلب ما لا بد منه للعائلة. غير أني قد استسلمت لتعذيبي، ولعل تهذيبي في تعذيبي؛ لأن علو الهمة تطلب المعالي المقربة إلى الحق عز وجل، وربما كانت الحيرة في الطلب دليلاً إلى المقصود، وها أنا أحفظ أنفاسي من أن يضيع منها نفس في غير فائدة، وإن بلغ همي مراده، وإلا فنيةُ المؤمن أبلغ من عمله" (١).

الهمة تلد الهمة:

إن صاحب الهمة العالية متى بقي على همته فإنه لا يزال يترقى في مصاعد السمو، ولا يقنع بما نال، بل كلُّ منال ناله يُصعِده إلى ما فوقه. قال عمر بن عبد العزيز: " إن لي نفساً


(١) صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: ١٨٠) وما بعدها.

<<  <   >  >>