للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وحزبه خدمًا له، وعونًا له، وإن انقلب على وجهه ونكص على عقبيه طُرد وصُفع قفاه، وأقصي وتضاعفت عليه المصيبة وهو لا يشعر في الحال بتضاعفها وزيادتها، ولكن سيعلم بعد ذلك بأن المصيبة في حقه صارت مصائب، كما يعلم الصابر أن المصيبة في حقه صارت نعمًا عديدة، وما بين هاتين المنزلتين المتباينتين إلا صبر ساعة، وتشجيع القلب في تلك الساعة والمصيبة لا بد أن تقلع عن هذا وهذا، ولكن تقلع عن هذا بأنواع الكرامات والخيرات وعن الآخر بالحرمان والخذلان؛ لأن ذلك تقدير العزيز العليم وفضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

العاشر: أن يعلم أن الله يربي عبده على السراء والضراء والنعمة والبلاء، فيستخرج من عبوديته في جميع الأحوال؛ فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال، وأما عبد السراء والعافية الذي يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه؛ فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته، فلا ريب أن الإيمان الذي يثبت على محل الابتلاء والعافية هو الإيمان النافع وقت الحاجة، وأما إيمان العافية فلا يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل المؤمنين، وإنما يصحبه إيمان يثبت على البلاء والعافية، فالابتلاء كير العبد ومحك إيمانه، فإما أن يخرج تِبراً أحمر، وإما أن يخرج زغلاً محضًا (١)، وإما أن يخرج فيه مادتان ذهبية ونحاسية فلا يزال به البلاء حتى يخرج المادة النحاسية من ذهبه، ويبقى ذهبًا خالصًا، فلو علم العبد أن نعمة الله عليه في البلاء ليست بدون نعمة الله عليه في العافية لشغل قلبه بشكره ولسانه: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك وحسن عبادتك، وكيف لا يشكر من قيَّض له ما يستخرج خبثه ونحاسه، وصيّره تِبراً خالصًا يصلح لمجاورته والنظر إليه في داره، فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبر على البلاء، فإن قويت أثمرت الرضا والشكر. فنسأل الله أن يسترنا بعافيته، ولا يفضحنا بابتلائه، بمنِّه وكرمه" (٢).


(١) الزغل: الغش. المعجم الوسيط (١/ ٣٩٥).
(٢) طريق الهجرتين، لابن القيم (ص: ٤١٥) وما بعدها.

<<  <   >  >>